بينما كنت أحسب في ذهني مقدار ما صرفته من أموال على مستلزمات الشتاء والمستهلكات التي لم ترد فالحسبان، وما يتبقى معي تعبًا لذلك حتى بقية الشهر، لفت انتباهي وأنا سارح في شاشة اليوتيوب الساكنة فيديو للمخبر الاقتصادي بعنوان “أول تريلونير في العالم قريبًا” وسألت نفسي، ما همي إن كان ماسك ملياردير أو تريلونير؟ وماذا سيتغير إن عرفت أن ’فرايد خسر في يوم واحد 15 مليون، أليست خسارتي، رغم فرق الكمية، موجعة أكثر بالنسبة لي؟ بالأحرى، كم عدد العرب الذين يمتلكون الرفاهية للاهتمام بهذه القضايا حقًا؟
ليس المخبر الاقتصادي هو الوحيد المنشغل بهكذا قضايا، ولكن منذ خبر استحواذ ماسك على تويتر صار العنوان الرئيسي لمعظم، إن لم يكن كل، المواقع الاقتصادي العربية، والذي من المفترض أن يعكس اهتمام الشارع العربي؛ لكن في الحقيقة ما هم المواطن العربي إذا خسر تويتر أو ماسك أو ربحا من دولار وحتى مئة مليار؟
لا شيء.
في حين تتناقل المواقع الإخبارية أخبار خسارة ملياردير أجنبي بكل حماس، يكون المواطن العربي منشغل في حساب حاصل طرح المصاريف من راتبه وما يبقى أو لا يبقى له منه، ومصادر دخل بديلة، ومتابعة سعر صرف العملة المحلية، وأسعار السلع الأساسية. لو أن هذه المواقع الإخبارية تتابع اهتمامات المواطن العادي بدقة لوجدت أن العنوان الرئيسي في يومه، ليس مقدار خسارة تويتر أو ماسك، ولكن سعر رغيف الخبر وكم تغير وزن ربطة الخبز بين الأمس واليوم.
يمكن لمتابع المواقع الاقتصادية العربية أن يلاحظ بسهولة أن التغطية الاقتصادية فيها قاصرة من ناحيتين:
1. نسخ التجربة الاقتصادية الرأسمالية الغربية
إذا ألقينا نظرة، في أي وقت، على “الأسواق العربية”، أشهر موقع اقتصادي عربي، سنجد حاضرًا على صفحته الرئيسية أسعار الخام الأمريكي، وتقرير عن أسهم والستريت، واقتصاد منطقة اليورو…الخ. التي قد تهم بعض المدراء التنفيذين في شركات النفط الخليجية (الذين يعتمدون مع ذلك على مصادر أجنبية أسرع وأكثر اطلاعًا) ولكن ماذا عن المواطن العادي؛ هل يشغل باله سعر النفط العالمي أم سعر بضع لترات تكفيه كوقود تدفئة للشتاء؟ ما همه إذا كان أوبك تزيد من إنتاجها ولكن أسعار المحروقات في بلده ما زالت تسبب له خسائر في تشغيل الورشة؟ وما المغزى من معرفة أن أمريكا قررت توظيف احتياطها النفطي إن بقيت أجور المواصلات مرتفعة بالنسبة للدخل؟
في اقتصاد الجزيرة توجد تقارير صحفية عوضًا عن أخبار أسعار الأسواق، لكن هذه التقارير، مرة أخرى، عن “ارتفاع سعر الدولار في التعاملات الصباحية” و “خفض المركزي التركي لأسعار الفائدة”، وما شابه.
تركز المواقع الاقتصادية على تغطية أخبار الاقتصاد بمفهوم الغرب، وكما يتعامل معه النظام الرأسمالي على وسائله الإعلامية. وصل الاقتصاد الغربي على ما وصل إليه نتيجة سنوات من التطور، والتجارب والأزمات، ونتيجة أنظمة سياسية قادرة على السماح لمثل هذه الاقتصادات بالتواجد، ورغم كل ذلك ما تزال هنالك الكثير من الأخطاء والتجاوزات التي لا يرضى عنها النظام نفسه.
يود الإعلام العربي السائد تجاوز كل المراحل والمحددات السابقة والتحدث عن اقتصاد عربي بنفس اللغة. يتحدث عن أسواق أسهم، ومعظم البلدان العربية لا تمتلك أسواق أسهم راسخة، ولا يشكل الاستثمار في الأسهم هاجسًا لدى معظم المواطنين. عدا عن عدم توفر بنية صحية وملائمة أساسًا، من حرية التداول وشفافية واستقلال إداري، لنهوض أسواق أسهم ناجحة. أسواق الأسهم العربية هي مكمل مظهري لتقليد الغرب يشبه بناء الأبراج والمباني الفارهة فيما جوفها فارغ.
يتحدث الإعلام السائد عن الأسواق المفتوحة والاستثمار، ويغضون الطرف عن التدخل الحكومي والتحكم فيه ومصادره. يتحدث مطولاً كيف تمول المشاريع العملاقة نفسها في الخارج، ولا يلتفون من أين يجد المواطن العادي مصادر تمويل لمشروعه الصغير في بلدان لا توفر لا هي ولا بنوكها أدنى مقومات الاستثمار والتمويل، ولا يهم أحد، على ما يبدو، أن يتحدث أو يحقق في مصادر تمويل الجماعات المسلحة لعملياتها- أليست معرفة، وفضح، مصادر تمويل فصيل مسلح يتحكم في رقاب ومعيشة آلاف العرب أهم وأكثر إلحاحًا بالنسبة للصحافة الفاعلة من مصادر تمويل سبيس إكس الواضحة والمكشوفة للعامة؟
ماذا عن الاقتصاد الإسلامي الذي روجت له هذه الوسائل الإعلامية بكل حماس طول العقدين الماضيين، والآن يشهد تراجعًا متسارعًا، حتى بين مؤيديه الذين وجدوا فيع غبنًا أكثر من التعاملات المالية “الربوية”، ويبدو أن الكل يحاول وئد هذه التجربة بصمت وتكتم على مخرجاتها.

أعتذر إن كنت أبدو متحاملاً أو مُستفَزًا من قبل هذا الأمر، وأعلم أن البعض سيقول أن المعلومات الدقيقة في الوقت المناسب، مثل أخبار الأسهم وأسعار العملات والنفط، أداة ضرورية لاتخاذ قرارات اقتصادية ناجعة، وذلك صحيح تمامًا، لكن في دولة مثل الولايات المتحدة أو المملكة المتحدة حيث قطاع ضخم من الأعمال والعاملين فيها يعتمدون على هذه المعلومات في حياتهم اليومية، ولكن كم نسبة المنشغلين في هذا القطاع حقيقةً بالنسبة للشعوب العربية؟ حتى القلة التي تعمل في هذا المجال تعتمد في معلوماتها على مصادر أجنبية أسرع وأدق، حيث قد تشكل الثواني في هذا القطاع فرقًا، ويدفعون رسومًا للحصول على هذه المعلومات، أما بالنسبة للسواد الأعظم من الأمة في مجرد ألغاز منفصلة عن حيواتهم اليومية.
وهذه مشكلة أخرى، تتحدث وسائل الإعلامية هذه عن مسائل متقدمة في الاقتصاد فحين لا يدرك المواطن العربي أدنى مبادئه. تتحدث عن فائدة المركزي وتقلبات سعر صرف الدولار في “التعاملات الصباحية” في حين ما يزال الكثير من المواطنين يظنون أن سعر عملات بلادهم مرتبط بما تمتلكه الدولة من ذهب، ويزيد من قناعتهم في ذلك أخبار مثل “انخفاض سعر الدولار أمام الذهب”.
في سوريا أيام الثورة، اشترى بائع وقود كمية ضخمة -بالنسبة له- من مازوت التدفئة قبل دخول موسم الشتاء لأنه سمع على الأخبار ان أوبك قررت خفض انتاجها من النفط مما ينذر بارتفاع كبير في أسعار النفط في الأسواق العالمية. اشترى الرجل وخزن على أمل الاستفادة من هذه الأخبار، لكنه فوجئ عند قدوم الشتاء بانخفاض كبير في أسعار المحروقات في منطقته جعله يخسر مبالغ طائلة. هل يمكن لأي من مصادر الاقتصاد العربي أن تفسر لهذا الرجل سبب خسارته؟ في سنة لاحقة، وسط وباء كورونا كانت الأخبار تنقل أن منتجي النفط في الولايات المتحدة يدفعون للناس لأخذ براميل النفط، فيما كانت أسعار النفط في سوريا في ازدياد- كاد الرجل أن يجن من هذا التناقض الذي لا يفسر، ولا عجب أنه ظن بعد ذلك أن هذه الأخبار تسخر منه، وتوقف عن متابعتها من يومها.
في واقعة أخرى، اشترى صراف كميات ضخمة من الليرة التركية عندما بدأت بالانخفاض متشبثًا بوعود أنها ستعاود الانتعاش، وبالتالي سيحقق مكاسب مالية. يسمع في الأخبار أن المركزي التركي سيخفض الفائدة بدل رفعه ولا يعطي بالاً لذلك، ليتفاجأ بخسارة استثماراته. الرجل متابع نهم لأسعار العملات، لكن هل يستطيع أن يشرح له أحد علاقة سعر الفائدة لدة المركزي بخسارة قيمة العملة، وما علاقة مسألة سياسية مثل تدخل الحكومة بقرارات المركزي بسعر العملة؟
هل تستطيع أي من هذه المواقع والمنشورات أن تفسر للمواطن العادي لماذا ترتفع أسعار البطاطا عندما يقل الطلب عن كل المواد الغذائية الأخرى؟ أو حتى مبادئ اقتصادية مثل لماذا لدى الدولة دين الخارجي، ومن أين أتى بالمرتبة الأولى؟ وكيف تحسب فائدة القرض الذي أخذه من البنك، ولماذا تزداد قيمة الأقساط التي يدفعها بدلاً من أين تنخفض؟
لنكون صادقين، تشير التقارير إلى أمية اقتصادية مشابهة لدى الغرب، وخاصة الولايات المتحدة. ولكن على العكس من المصادر العربية، في الغرب من يبحث يجد العديد من المراجع التي تخدم تطلعاته وتساؤلاته. الاقتصادي العربي ذكي ويجد مصادر تمويل، وطرق توريد وإمداد تلائم واقعه وتستغل نقاط ضعف وقوة سوقه بطرق لا تخطر على المستثمر الأجنبي، لكن حين يبحث عن إجابات حول واقعه الاقتصادي يواجه بإعلام غربي رأسمالي خالص.
الأمر ليس محصورًا في المواطن العادي، فحتى الاقتصادي المختص مُغرب عن واقعه، وعن المبادئ الاقتصادية كذلك. عندما كنت أدرس في الجامعة وقعت أزمة الرهن العقاري، ومن الطبيعي أن يرجع الطلاب لأساتذتهم لفهم معنى ما يجري، لكن الكثير من الدكاترة أنفسهم لم يكن لديهم فكرة واضحة عن أسباب حدوث تلك الأزمة ولا مفرداتها- كانت مصطلحات مثل “قصر الدين” أمرًا تجريديًا ملغزًا، مع ذلك لم يمنع هذا الأمر الكثيرين من الكتابة وتحليل الأزمة على وسائل الإعلام، لينتهي بهم الأمر لإرجاع الأزمة، كالعادة، إلا أنه مؤامرة أو خدعة أمريكية.
صحيح أن المواطن العادي لن يهتم كثيرًا بالمبادئ الاقتصادية الاختصاصية حتى لو كانت تمس واقعه، ولكن من واجب الأكاديميين والمختصين العمل على تحسين هذا الواقع. عندما كتب ماركس عن رأس المال والصراع الطبقي، واستغلال العمال مستخدمًا الفلسفة ومصطلحاتها لم يتوقع أن يقرأ له العامل العادي، لكن أفكاره كانت لبنة أساسية في الحركات العمالية والاشتراكية، ذلك أن الثورات بحاجة لمبادئ فكرية لتتحرك، وإلا تصبح مجهودًا ماديًا بحتًا عرضة للتشتت والضياع، أو الأسوأ؛ الاختطاف.
على الجانب الآخر، في الاقتصاد الشعبي (إن أحببت)، مثل برنامج المخبر الاقتصادي، نجد تركيزًا على كيف يصنع الأغنياء ثروتهم وكيف يبنون امبراطورياتهم، بدعوى أنهم مصدر إلهام. تغض هذه البرامج الطرف عن البيئة الاستثمارية المواتية التي نشأت فيها هذه الامبراطوريات، ودور الحظ، والتسهيلات الحكومية في تلك البلدان، وتحيز النجاح وغيره. وتركز على الأثرياء الأجانب ورفاهياتهم بدلاً من كيف يمكن للمواطن العربي استغلال المصادر المتوفر في محيطه للبدء بمشروعه الخاص، لأن قصص الأثرياء أكثر إمتاعًا، وتجذب المشاهدين والمتابعين بهالة النجاح والغنا السريع التي ترسمها.
يظهر هذا الهوس بالمتابعين أيضًا لدى وسائل مثل هارفرد بزنس ريفيو بالعربي، حيث بدل أن نجد مقالات وتحليلات معمقة لبيئة العمل وطرق تحسينها، تكون غالبية المواضع أشبه بكتابة محتوى عن “كيف تحسن نفسية الموظفين في س خطوات”، على سبيل المثال، في حين أن غالبية العمال في المنطقة لا يتلقون أبسط حقوقهم الوظيفية من الإجازات وحتى الأجور العادلة، و”أفضل ترتيب لمساحات العمل” و “كيف تفاوض على راتب أعلى” وغيره من المواضع التي يبدو أنها كتبت لمحركات البحث وليس لعامل أو مدير عمل عربي واقعي.
الخلاصة، أليس غريبًا أن وسائل الإعلام هذه نفسها تدعو في كل مناسبة ألا نستورد قيم الغرب وأفكاره بل أن نقولبها ونلائمها لمجتمعنا وعاداتنا، ولكن حين يأتي الأمر للاقتصاد، نستدعي المثال الغربي كما هو!
2. طريقة التقديم
لا يتعلق الأمر بالتركيز على الأثرياء واقتصاداتهم كما سبق، ولكن هذه الصورة متحيزة أيضًا، ففيها تمجيد واحتفاء بالأثرياء وإنتاجاتهم بشكل إيجابي، مع نظرة سلبية وسوداوية عندما يتعلق الأمر باقتصاد عامة الشعب.
يصوَر الأثرياء على أنهم مُثل ملهمة يجب التطلع إلى نجاحها، ولا يتوقف أحد للتساؤل فيما إذا كان هذا هو النموذج، الذي يصعد فيه فرد واحد على أكتاف آلاف الكادحين، هو الذي نود الاستلهام منه، وعندما تتحدث ذات الوسائل عن اقتصادات دول معها عداوة تصبح نقدية وهازئة بفشل هذه الاقتصادات. عندما تنهار عملة إحدى هذه الدول، يسارع الإعلام الحكومي لرمي الوعود والتطمينات الكاذبة والغير واقعية، فيما يذهب الطرف الآخر للشماتة من فشل الحكومة، متناسين أن هذه العملة التي يهزؤون بها هي لقمة عيش طبقة واسعة من الشعب، وليست شأننًا حكوميًا خاصًا، وبدلاً من تقديم تحليل عميق لأسباب وقوع الأزمات ومن ثم اقتراح حلول، يقدمون صورة سوداوية عن الأمور متناسين أنه في الاقتصاد العالمي اليوم لا أحد بمعزل عن الأزمات المالية.
في أزمة تجميد الودائع في لبنان لقيت سالي حافظ اهتمامًا إعلامية أكثر من أي مسعى لإيجاد حلول لبقية المودعين، أو تفسير مقنع لما يحدث، أو كيف يمكن تجنبه مستقبلاً، لأن الإعلام يجري وراء النميمة الإخبارية أكثر من السعي الصادق وراء الحقيقة.
للأسف، تبحث الصحافة الاقتصادية السائدة عن الشعبية أكثر من الفائدة، وعن النقد المتشفي أكثر من التحليل الهادف، وتقليد هالة الغرب كثر من الملائمة. وما لم يتغير كل ذلك ستبقى الاقتصادات العربية كبائع المازوت، مرة يصيب، ومرات يخيب دون أن يفهم ما يجري فعلًا.

