بيان القيامة الآن

هنالك أمر مؤسف يحدث بخصوص الصحافة العربية.

لنفترض أنك تود التعبير عن رأيك في قضيةٍ ما، أو تخبر قصة لم يسمع بها أحد، أو تفضح تجاوزاتٍ تمر دون ملاحظة. لديك ثلاث أصناف من المنصات التي تستطيع مراسلتها:

أولاً، المنصات الحكومية أو الشبه حكومية التي تتلقى دعمًا سخيًّا من الأنظمة التي تروج لها ولأيدولوجياتها. لا تستطيع الكتابة لهذه المنصات إلا إن كنت صاحب حظوة لدى النظام، أو تود التعبير عن رأيك بما يتوافق مع توجهاته أو “الحريات” التي تلائم سياساته في أحسن الأحوال. على سبيل المثال، يمكنك أن تعبر عن آرائك اليمينية بحرية على إحدى منصات الجزيرة العربية، ولكن يجب أن تصبح يساريًّا وليبراليًّا لتحظى بالقبول في ذراعها الإنكليزي AJ+.

مع المساحات التي وفرها الانترنت وانتشاله لحصرية الإعلام من يد الدولة، أتى الصنف الثاني كرد على الصنف السابق. انقسم هذا الصنف إلى فريقين متناقضين؛ فريق معارض يميني يلقى رواجًا في المجتمع، ويتمثل غالبًا في المنصات الإسلامية، والتي من المفترض أنها معارضة لدكتاتورية الأنظمة وإعلامها، وتكافح ضد تكميم الآراء الإسلامية المحافظة في الإعلام الرسمي، إلا أنها تمارس دكتاتورية مشابه مع أي رأي مخالف لها. إن المعارضة التي تمارسها من باب عدم اصطفاف الأيدلوجيات، وليست عن قناعة بضرورة التنوع، ومنع مركزية السلطة والرأي. بالتالي، فإن المشاركة مع هذه المنصات يجب أن تتوافق مع رؤيتها وأيدولوجيتها، وأي محاولة للتفكير خارج الصندوق، أو النقد تعتبر منكرًا وباطلاً.

الفريق الثاني الذي بدأ يكتسب زخمًا مؤخرًا -مع بقاء شعبيته في المرتبة الأخيرة- هو المنصات اليسارية التي تحصل على دعم من مؤسسات غربية ليبرالية تدفع لمواجهة المد الإسلامي. تؤمن هذه المنصات بحرية الرأي وتنوع الأفكار طالما أنها لا تضر بفرص استمرار الدعم من المؤسسات الغربية. وتستورد المنصات اليسارية قضايا الحريات وأدبها كما يراها ووصل إليها الغرب، دون ملائمة للواقع العربي وتحدياته، ودون اعتبار لفرق المراحل. من هنا نجد أن الجمهورية تخصص ملفًا عن الحب أو “الجنوسة” في وقت لا يجد فيها المواطن السوري -الذي تتوجه إليه في المقام الأول- لقمة العيش، ويرضخ تحت سلطات الأمر الواقع، في ظل غياب أي تصور لمبادئ الحكم الرشيد وطرق الخروج من الأزمة. ونجد رصيف22 تتحدث عن حق المرأة في اختيار أكثر من عشيق، في وقت تُقتل نساء عربيات بتهمة التحدث مع رجل، أو حتى لمجرد الشك في ذلك. تنشغل هذه المنصات برفاهيات الحرية التي وصل إليها الغرب وكأنها واقع مفروغ منه، في حين أن المجتمعات العربية لم تتجاوز بعد المبادئ. وتستورد قضايا الغرب بتاريخه ومصطلحاته -مثل كلمة “الناشطية” الدراجة في هذه المنصات رغم وجود كلمة عربية لهذا المعنى هي “النضال”- متجاوزة مفردات أصحاب الشأن وتاريخهم النضالي.

الصنف الثالث، والأقل تأثيرًا فكريًا، هو المنصات التي تظهر كمساحات لنقاش الشأن السياسي، مثل ساسة بوست ونون بوست وغيرها، ولكنها في الحقيقة لا تعدو عن منصات كتابة محتوى تجاري تحت عباءة السياسة. مواضيع هذه المنصات، مثل أي منصة محتوى، عامة جدًا، ولا تزعج أحدًا، ولا تنتقد تجاوزًا، وباردة كأن الذكاء الاصطناعي كتبها لأدوات تحسين المحتوى وليس بواسطة البشر وللبشر.

من الطبيعي أن تكون لكل وسيلة إعلامية توجهاتها المسبقة، وهذا التنوع يخدم مبادئ الحرية وتعدد الآراء، لكن المشكلة هي بُعد هذه المنصات عن واقع المواطن العادي. أنها تخدم قناعات مسبقة بينما ما يزال القارئ يبحث عن طريقه، ويود الاقتناع بما يطرح عليه عوضًا عن فرضه لأن المصادر الشرعية أو الغربية أو الحكومية قالت كذا.

لأمكن تجاوز هذا الانفصال عن الواقع، لولا المشكلة التالية التي خبرها أي شخص حاول الكتابة لمنشور عربي حديث.

السياسة التحريرية

من حق أي وسيلة نشر أن ترفض أي عمل لا يتوافق مع مبادئها السياسية، لكن الغريب أن المنصات التي تدعي فتح الباب للجميع للتعبير عن رأيهم، تتبع حقيقةً نظام “الشلة” أو الزمرة في سياستها التحريرية. إن لم تكن من الدائرة المقربة، فلن يتم اعتبارك غالبًا. لا أحد يفتح الإيميلات على صفحات “شاركنا”، بل هي مجرد ديكور للداعم. أما إذا أردت النشر حقًا، فعليك التوصل لإيميلات المحررين الشخصية.

قد تعتقد أن المقالات المؤثرة هي المهمة، أو أن نقل الواقع وإحداث تغيير هو الهدف. لكن المهم فعليًا هو أن تكون ضمن “الشلة”. تحصل هذه المنصات على أموال هائلة لتدريبات في المالديف، ورواتب أوربية على المقالات والتحرير. لذلك عندما تقدم، كشخص منفرد، عملًا مؤثرًا دون أن تحضر أي من الدورات المكلفة، ومن دون تمويل سخي، فإنك تضرب مصداقيتهم المالية، وتهدد رواتب “كتاب الشلة”. لا يختلف واقع المؤسسات الإعلامية العربية، حتى الأكثر ليبرالية حقيقة، عن واقع الفصائل المسلحة، أو الشركات العائلية التي تُقصي أي صاحب خبرة خارجي لإبقاء الثروة ضمن الدائرة المقربة.

نحن لا نتحدث هنا عن رفض العمل، وذلك حق تحريري لأي مؤسسة، ولكن نتحدث عن التجاهل التام، وكأن صوتك غير مهم، أو أنك بلا مشاعر ووقت المحرر أثمن من أن يرد عليك. الذريعة المكررة أنهم لا يملكون الوقت للرد على الجميع. لكننا راسلنا وسائط أجنبية، وأكثرها انشغالاً يخبرك أنه سيرد عليك خلال شهرين. وبالفعل يأتي الرد، سلبًا أو إيجابًا، قبل نهاية المدة، على عكس المنصات الإعلامية العربية التي تتجاهل الصحفيين والكتاب، مالم يكونوا من الطغمة المقربة.

هذا بالطبع دون التحدث عن أهمية اسم الكاتب ومدى شعبيته للحصول على حظوة النشر. أما أولئك الذين أرادوا الكتابة لمرة واحدة كصرخة في الزمن، أو أولئك الذين تمثل الكتابة لهم ملجأ للتعبير عما يدور من حولهم، لمقاومة ما يسحقهم، ومهربًا من الموت قهرًا، فإن المنصات المتوفرة نادرة جدًا. تظن أن هنالك انفجارًا، أو عصرًا ذهبيًا للمنصات الإعلامية العربية، ولكنها في الحقيقة قليلة، ولا يخرج غالبها عما سبق.

وعدنا

يجب أن تكون الصحافة صادقة مع نفسها ومع قرائها منذ البداية. لقد ولدنا من رحم الفشل. تجد القيامة الآن نفسها في عالم مشبع بالأفكار السيئة. هدفنا أن نقول ذلك. يسير الإعلام المعارض والإعلام الذي تتحكم به الدولة جنبًا إلى جنب لتحقيق هدف مشترك لا يرحب بالأصوات الناقدة، وليس لديهم الوقت للاستماع لصوت المواطن العادي المخنوق. يجدون العامة مزعجة، وغوغائية، وغير مطلعة، وغير محترمة. هذا هو العقل المنغلق الذي جئنا للتحدث ضده.

كان ما سبق هو نقطة الانطلاق لإنشاء هذه المجلة. لكن لماذا التوقف عند ذلك؟ نود الذهاب أبعد، والقيام بما هو أفضل بكثير.

أولًا، وكما قد تكونون قد لاحظتم من تصميم المجلة، نود إرجاع العصر الذهبي للجرائد العربية القديمة. عندما كانت الكتابات السياسية حماسية، والجدران موشحة بالملصقات النضالية، وكان دعم القضايا الحقوقية أسلوب حياة، والسياسة شأن شعبوي وليس نخبوي.

تَعد مجلتنا بالقليل. لكن ما تعد به جوهري، ويتمثل في محاولة تقديم مواضيع سياسية عميقة ومقروءة في الوقت نفسه، وهو مزيج تعاني معه الصحافة العربية. في اللحظة التي تصبح فيها الأمور تعليمية ونخبوية ومملة، يرجى إعلام المحررين، وسيوقفون النشر فورًا.

على الرغم أن هذه المجلة تحاول أن تكون ممتعة، إلا أنها تلتزم ببعض المبادئ:

لسنا مع أي فئة أو حزب أو زمرة. كل شيء مرحب به للنقاش، مع مراعاة المبادئ الأخلاقية التي تتجاوز الأشخاص والتحزبات. نعتقد أن الأشياء يجب أن تسعى جاهدة لتكون منطقية، بدل أن تكون مسلمات، ويشمل ذلك القضايا اليمينية واليسارية، مما يضعنا في أقلية بين مجلات التعليق والتحليل السياسي.

لا نهتم بمعظم وسائل الإعلام الحالية، التي تبدو مفتونة بالأمور السطحية التافهة التي تجذب النقرات، وغير ملتزمة بشكل كافٍ بتقدم الشعوب. لا تسمحوا لنا بالتصرف هكذا.

رغم ما ذكرناه سابقًا عن واقع الصحافة العربية، فليس هدفنا هنا، ولا عمومًا، إلغاء أحد. مقصدنا من النقد هو تبيان مكامن الخلل ومحاولة إصلاحها، وليس إلغاء الآخر. هذا هو فقط النقد الحقيقي. النقطة ليست الاستفزاز أو التصيد، وليس الهدف حل الأخلاق والغرق في مستنقع التشتت والضياع الما بعد حداثي. الهدف من النقد الصادق هو التعامل مع الحقيقة بشكل أفضل، وليس إنكار إمكانية وجودها.

من هنا، نحن نتبنى الصحافة البناءة؛ الصحافة التي تنتقد وتعطي أملًا بالتغيير، بدل أن تحيل القارئ إلى القنوط وفقدان الأمل. اليأس هو مجرد شكل آخر من أشكال الإنكار. يتوق الناس، والشباب خاصة، للشعور بالأمل مرة أخرى، وللإحساس بأنهم يستطيعون إحداث فرق في هذا العالم. لذلك سنرسم صورًا أقل قتامة عن الواقع، ونطور أفكارًا تساعد على تحسين العالم، وليس فقط نقده.

مرة أخرى، من الناحية المثالية، لن تتجاهل الظلم أبدًا؛ ومن هنا شعارنا الذي نتبناه عن المتلمس الضبعي حين يقول:

فَما الناسُ إِلاّ ما رَأَوا وَتَحَدَّثوا

وَما العَجزُ إِلا أَن يُضاموا فَيَجلِسُوا

ولن نسخر من غير المألوف، أو ندعم حربًا، أو نقلل من شأن أحد، أو نجلس أمام نتفلكس وننسى الفظائع من حولنا، أو نبرر فعل لا يمكن تبريره، أو نستخدم وصفًا غير دقيق، أو نحجب الحقيقة عن قصد.

هدفنا الرئيسي هو إنتاج شيء تستمتع بقراءته والنظر إليه، مما يجعلك متحمسًا للبقاء على قيد الحياة، ويزيد من إحساسك بالارتباط بمعاناة إخوتك من سكان هذا الكوكب. إن شعرت بعد قراءة إحدى المقالات برغبة في معانقة شخص ما ودعوته لحل إحدى مشاكل عالمنا، فقد نجحنا في مهمتنا.   

لَجِئُونُ

إنشاء موقع إلكتروني أو مدونة على ووردبريس.كوم