إلى إيميلي: متى “سينطق” الشرع؟

عزيزتي إيملي،

باق بضعة أيام ويمر شهر على ذكرى انتصار الثورة السورية ورحيل الأسد، ومع ذلك لم يخرج “القائد” الجديد ليتحدث إلى الشعب السوري عما حدث وسيحدث. بينما أجلس هنا أقرأ عشرات المنشورات على وسائل التواصل الاجتماعي تعبر عن فارغ صبر أصحابها لخطاب يوضح طبيعة المرحلة، والأوضاع الأمنية في حمص والساحل، وتمدد الاحتلال في القنيطرة، وكيف انتصرت غرفة العمليات على قوات النظام في 11 يوماً بعيداً عن “وتكتيكات أخرى ليس وقتها الآن”… تقع عيني باستمرار على كتاب ضخم لمصطفى كمال أتاتورك يدعى “الخطاب العظيم”.

عام 1927 عندما وقف مصطفى كمال أتاتورك أمام الجمعية الوطنية الكبرى لا لساعة ولا ساعتين، وغنما لمدة ستة أيام، وألقى خطاباً طويلاً أصبح يعرف باسم ” Nutuk” (النطق). شرح الخطاب للشعب الأحداث من بداية حرب الاستقلال التركية في 19 أيار 1919 وتأسيس جمهورية تركيا في عام 1923. استغرق أتاتورك ست وثلاثين ساعة لقراءته، وشكل الخطاب نقطة تحول في القومية التركية من خلال إدخال سلسلة من المفاهيم الجديدة في لغة الخطاب العام، مثل الجمهورية والديمقراطية وسيادة الأمة. وصف أتاتورك هذه المفاهيم بأنها “الكنوز الأكثر قيمة” للشعب التركي، و”أسس” دولتهم الجديدة، والشروط المسبقة لـ “وجودهم” المستقبلي في خطابه. كان أتاتورك في تلك اللحظة زعيماً يفهم أن السلطة المستعارة من الشعب يجب أن تؤخذ في الحسبان بالكلام الواضح.

أما عندما ينسحب زعيم ثوري إلى الصمت بعد الانتصار، فإنه يرتكب نفس الخطيئة التي ارتكبها أولئك الذين أطاح بهم – معاملة الناس كرعايا وليس مواطنين. الغريب أن الشرع كان يخرج كل هينة أثناء العمليات العسكرية ليبارك للشعب السوري تحرير مدينة جديدة، أو ليطمئن المتخوفين في المناطق الخارجة عن سيطرة النظام حديثاً، وهو ما عزز العمليات العسكرية على الأرض، على عكس الأسد الذي لم يخرج لطمأنة مؤيده مرة واحدة، وهو ما سرع في سقوطه. انهمك الأسد في عقد الاجتماعات مع الدول التي ترعاه، وأهمل التحدث إلى الشعب ليعزز الفراغ شائعات هروب رأس النظام. واليوم ينشغل الشرع باستقبال الوفود الأجنبية التي لن ترضى عنه (فرنسا وألمانيا مثلاً) على حساب مخاطبة الشعب السوري، تاركًا الباب مفتوحاً لأشكال التكهنات التي تحيكها الهيئة في السر.

تخدم خطب الانتقال الثوري ثلاث وظائف حيوية: فهي تعمل كعقد بين القائد والمواطن، وتوفر بوصلة لاتجاه الأمة، والأهم من ذلك، أنها تمنع الفراغ الخطير الذي يخلقه الصمت – وهو فراغ غالبا ما يملأه الخوف والشائعات.

ولنتأمل هنا خطاب فاتسلاف هافيل عام 1990، الذي ألقاه بينما كان غبار الثورة المخملية لا يزال معلقا في هواء الشتاء في براغ. وأعلن: “أيها الناس، لقد عادت حكومتكم إليكم!”.  ليس حطاب فاتحٍ منمق، ولكن خطاب كاتب مسرحي متواضع فهم أن الكلمات تشكل الواقع، وهكذا أصبح الخطاب البوصلة الأخلاقية لتشيكوسلوفاكيا خلال انتقالها الصعب.

أو لنأخذ خطاب تنصيب نيلسون مانديلا عام 1994، حيث وعد قائلاً: “المهمة لن تكون سهلة وتتطلب أن نعمل جميعا لوضع نهاية للانقسام والشكوك المتبادلة.. لقد حان وقت اندمال الجروح وردم الفجوة التى تفرق بيننا.. لقد حان وقت البناء”، “لن نحقق النجاح لو عمل كل منا بمفرده، لذا علينا أن نعمل معا كشعب متحد لتحقيق المصالحة الوطنية، وولادة عالم جديد”، “سنضع الإطار القانوني الذي يساعد على المصالحة ويقضى على الانقسام.. وسأنظر فى استخدام حق العفو لتحقيق هذا الهدف”. لم تكن تلك مجرد كلمات، بل مخططاً للمصالحة ساعد في منع حمام الدم الذي كان يخشاه الكثيرون.

إن الفشل في مخاطبة الناس بعد الثورة يولد الشك. كل يوم يمر من الصمت يقوض الثقة التي غذت الثورة. يعلمنا التاريخ أن القادة الثوريين الذين يبدأون بالصمت غالباً ما ينتهون بضجة المدافع. لقد رأينا هذه الدراما من بورما إلى بوليفيا، ومن طهران إلى تبليسي. يختلف السيناريو، لكن النهاية لا تزال متشابهة بشكل مؤلم، حيث لم يعد بالإمكان تمييز المُحررين عن القمعيين– حيث حلت قبعة الثورة محل تاج الطاغية.

أولاً يأتي الهمس. في الاجتماعات الخاصة، وعلى وسائل التواصل الاجتماعي، في الزوايا المظلمة والساحات، يبدأ الناس في التذمر. كلماتهم، مثل البذور التي يخذيها برد الشتاء بصمت. “هل خانتنا الثورة؟” يتساءلون. “هل استبدلنا سوط ديكتاتوري بسوط آخر؟” “هل تخطط الهيئة للتفرد بالسلطة؟” “هل يشتري الشرع الوقت ليفصل نظاماً على هواه؟” والصمت من الأعلى يغذي هذه الهمسات حتى تصبح صراخاً.

ثم يبدأ الاقتصاد، ذلك الوحش العظيم الذي يتغذى على اليقين، في الشعور بالجوع. من سيستثمر في أمة لا يعرف مسارها؟ المغتربون الذين كانوا يتوقون إلى العودة إلى بلادهم مترددون الآن بسبب غموض الأفق. التجار الذين كانوا يتطلعون لبدأ استثماراتهم قرروا التروي حتى يفهموا نوايا الإدارة الجديدة، بينما الإدارة منشغلة برفع العقوبات الغربية… التي لن ترضى عنكم.

والأكثر غدراً من ذلك كله هو عودة العادات القديمة. ينفض البيروقراطيون، هؤلاء الناجون الأبديون من كل عاصفة سياسية، الغبار عن أساليبهم القديمة. بدون اتجاه جديد، فإنهم يعودون إلى ما يعرفونه– الممارسات نفسها التي سعت الثورة إلى الإطاحة بها. ليتك رأيت قانون تنظيم الجمعيات الغير ربحية يا إيميلي– لا يطمح لأن يكون كقوانين مصافي الدول، بل إنه نسخة عن قوانين النظام البائد… أمرٌ مثير للفضول، مدى السرعة التي تفوح بها رائحة الجديد مثل القديم.

وتأتي الأخبار اليوم بالتوالي بأن قوى الأمن والشرطة يتصرفون بمبادرتهم الخاصة، وتفسير دورهم من خلال عدسة التجربة السابقة. البارحة، نتيجة الظروف في حمص، كتبت سيدة أتابعها: “ليت نيزك يأتي ويخلصنا”. الغريب أنها كتبت منشوراً مماثلاً قبل عام في ظل حكم الأسد. هكذا لحظات تشعر وعد الثورة يتلاشى بسرعة مثل ضوء النهار.

أخيراً، بدون رؤية، من دون خطة طريق معلنة للشعب، سيأتي التصدع. تبدأ فصائل مختلفة من الحركة الثورية، التي لم تعد متحدة بصوت قائد، في تفسير انتصارها بطرق متضاربة، وتتقاتل على أحقيتها ونصيبها، ولن يعرف الشعب مع من يقف، لأن لا أحد يتحدث باسمه؛ فقط باسم مصالحهم.

الساعة تدق، وحكم التاريخ يزداد قسوة مع مرور كل يوم من الصمت.

دائمًا، بصدق، رافاييل

إلى إيميلي، رسائل دورية يكتبها رافاييل لايساندر