سوريا وأرويل: أو ما هي العدالة الانتقالية على أي حال؟

تخيل بلداً يتعلم فيه كل تلميذ، لعقود من الزمان، أن أعظم مآسي بلاده هي انتصاراته، ويصنف الضحايا على أنهم خونة، ويُحتفل بالجناة كأبطال. ثم تخيل أنه في صباح أحد الأيام، يسقط النظام. تصبح كتب التربية الوطنية عديمة القيمة بين عشية وضحاها، وتماثيل قادة الأمس الذين هللت لهم الحناجر في مزابل المدينة. لكن المهمة الأصعب لا تزال قائمة: كيف يمكن للمجتمع أن يتخلص من النسيان الإجباري؟

كانت وزارة الحقيقة، كما تخيلها ’أورويل ذات مرة، بمثابة تذكير بكيفية سيطرة الأنظمة الشمولية ليس فقط على الحاضر، ولكن أيضاً على الماضي. واليوم، وبينما تخرج سوريا من ظلال مثل هكذا نظام، فإنها تواجه تحدياً كان من شأنه أن يسحر أورويل نفسه: كيفية إعادة الحقيقة والعدالة إلى مجتمع مبني على الأكاذيب. واقعنا اليوم ليس مجرد خيال. هذا هو واقع العدالة الانتقالية، وهو مفهوم معقد بقدر ما هو بالغ الأهمية، لذلك نسمع عبارات على الانترنت بأننا “لا نريد عدالة انتقالية، ولكن عدالة توافقية”. أو شمولية، أو ربطها بالمرحلة الانتقالية القصيرة بعد سقوط النظام، وغيره من الأقوال التي تشي بسوء فهم لهذا المصطلح، حتى ضمن المثقفين والمنظرين السياسيين.

 لنفكر في الأمر على أنه إعادة تأهيل على مستوى المجتمع بعد مرض طويل. وكما يحتاج المريض الذي يتعافى من إصابة خطيرة إلى أكثر من مجرد دواء فهو يحتاج إلى العلاج الطبيعي، والدعم النفسي، والوقت للشفاء فإن المجتمع الخارج من الحكم الشمولي يحتاج إلى أكثر من مجرد قوانين وقادة جدد.

عندما تقع سرقة في مجتمع عادي، فإن العدالة واضحة: العثور على اللص، وإعادة المسروقات، وربما فرض عقوبة جزائية. ولكن ماذا يحدث عندما يكون اللص هو الدولة نفسها، عندما لا يسرق فقط الممتلكات ولكن الحقيقة والكرامة وحتى الذاكرة؟ ماذا يحدث عندما يكون ملايين الأشخاص متواطئين معه، بعضهم عن طيب خاطر، والبعض الآخر تحت الإكراه؟ هذا هو المكان الذي تقصر فيه المفاهيم التقليدية للعدالة.

تعالج نماذج العدالة المتنوعة الاحتياجات الفريدة للسياقات الانتقالية بعدة طرق:

لا تتعلق العدالة الانتقالية فقط بمعاقبة المذنبين أو تعويض الأبرياء. يتعلق الأمر بإعادة بناء علاقة المجتمع بالحقيقة نفسها. في عالم “1984”، كانت مهمة ونستون سميث تغيير السجلات التاريخية لتتناسب مع السرد الذي يريده الحزب. في نظام الأسد، كانت هناك إدارات مماثلة، على الرغم من أنها لا تعمل تحت مسمى وزارة الحقيقة. تتمثل المهمة الأولى للعدالة الانتقالية في التراجع عن هذا الضرر، واستعادة الحقيقة ليس فقط في السجلات الرسمية ولكن في الذاكرة الجماعية للمجتمع.

بعد سقوط الأسد، وفي ظل فوضى انتشار سجلات المخابرات، وصل المواطنون إلى سجلات المخبرين و”كتبة التقارير”. تخيل اكتشاف أن أفضل صديق لك منذ عشرين عاماً كان يبلغ السلطات عن محادثاتك الخاصة معه. أو معرفة أن سجن والدك كان بناء على اتهامات كاذبة من زميل في العمل كان يطمع في منصبه. هذه ليست مجرد حقائق تاريخية يجب تصحيحها في الكتب المدرسية. إنها حقائق شخصية تعيد تشكيل حياة الأفراد والعلاقات.

ويكمن التحدي الذي تواجهه العدالة الانتقالية في أنها يجب أن توازن بين العديد من الاحتياجات المتنافسة: الحاجة إلى الحقيقة والحاجة إلى السلام، والرغبة في العقاب مقابل ضرورة المصالحة، والدعوة إلى التغيير السريع مقابل شرط الاستقرار. هذا هو المكان الذي تصبح فيه رؤية أورويل ذات صلة بشكل خاص. لقد أدرك أن السلطة السياسية لا تتشكل فقط من فوهة البندقية، ولكن من السيطرة على الحقيقة والذاكرة. إن عملية العدالة الانتقالية هي من نواح كثيرة انعكاس لما وصفه أورويل في “1984” فبدلا من السيطرة على الماضي للسيطرة على المستقبل، فإنها تسعى إلى تحرير الماضي لتحرير المستقبل.

رسمة كوميك تظهر رجلا نائم ويرى كابوس مرعب، مع اقتباس عن العدالة الانتقالية

آليات العدالة الانتقالية

تواجه المجتمعات الخارجة من الحكم الشمولي شبكة معقدة من الإصابات التي تتطلب أدوات ومناهج مختلفة. دعونا نفحص هذه الأدوات، لا كمفاهيم مجردة، ولكن كأدوات عملية للشفاء.

الأداة الأولى هي الاعتراف بطبيعة النظام السابق، وفي السياق السوري، لا يعني ذلك الاعتراف بأن النظام السابق كان ديكتاتوريًا وظالماً– وهو ما يُعلنه الجميع الآن، ولكن أيضاً الاعتراف بأن النظام السابق، مثل جميع الأنظمة الشمولية، تفرد بمجمل سلطة الدولة، بما في ذلك السيطرة على الثقافة والتاريخ، وعدم وجود خط واضح بين الحاكم والمحكومين، مع انتشار القمع في جميع أنحاء المجتمع. وأن النظام السابق استخدم التاريخ الرسمي للدولة لتبرير أفعاله والحفاظ على السلطة. ونحتاج حقاً للاعتراف، مهما جرح ذلك كبريائنا، بأن الدولة ارتكبت سيطرتها على المجتمع من خلال الإذعان المجتمعي.

الأداة الثانية هي المحاكمة الجنائية. حيث يجلس وزير داخلية سابق أو قاضي أمن دولة في قفص الاتهام، ويجب عليه الإجابة على أسئلة أولئك الذين اضطهدهم ذات مرة. أثناء كتابة هذا المقالات، كانت غرفة العمليات تشن حملة على فلول النظام في حمص وتلقي القبض على ضباطه، وسبق ذلك أخبار متفرقة عن العثور على جثث شبيحة سابقين مقتولين وملقين على الطرقات. مالم يكن هنالك محاكمة لفلول النظام، فستبقى أعمال ملاحقتهم في إطار العمليات الانتقامية، وغلبة المنتصر وقهر المغلوب. أما توفره المحاكمات العلنية فهو يتجاوز ذلك للقول بأن أفعال القمع والترهيب لم تعد مقبولة، أن الدولة الجديدة تحاسب من يوقع ظلماً بمواطن آخر مهما كانت الفروق بينهما. تخدم هذه المحاكمات غرضاً يتجاوز مجرد العقاب- بل إن بعض التجاوزات الإعلامية والفكرية لا يعاقب عليها القانون، لكن تظل المحاكمات ضرورية لأنها أفعال طقسية لترسيم الحدود، ترسم خطاً واضحاً بين الماضي والحاضر. تقول للمجتمع: “ما كان طبيعياً في يوم من الأيام أصبح الآن إجرامياً. ما كان قانونياً في يوم من الأيام يفهم الآن على أنه انتهاك”.

ثم هناك لجان الحقيقة Truth Commissions، وربما تكون أكثر ابتكارات العدالة الانتقالية تميزاً. إن لجان الحقيقة هي جهود رسمية أو ترعاها الحكومات لمعالجة الأخطاء الماضية، وغالباً ما تكون في سياق الانتقال من نظام استبدادي إلى نظام ديمقراطي. وهي آلية للتحقيق في انتهاكات حقوق الإنسان وغيرها من الانتهاكات التي وقعت في ظل نظام سابق والإبلاغ عنها.

تسعى لجان الحقيقة إلى إثبات الحقيقة بشأن الحكم القمعي في الماضي، وخاصة في الحالات التي لا تكون فيها الملاحقات الجنائية ممكنة. وتهدف إلى توثيق نطاق وطبيعة العنف، وتحديد الضحايا، وفي بعض الحالات، تسمية الجناة. ويمكن أن يشمل هدف هذه اللجان تعزيز المصالحة، وتعزيز الديمقراطية، ومنع تكرار الفظائع.

عادة ما يتم إنشاء لجان الحقيقة من قبل السلطة التنفيذية للحكومة وتمنح صلاحيات معينة، إن لم تكن صلاحيات قضائية كاملة. وهي تعتمد عمومًا على جلسات الاستماع العامة وشهادات الضحايا وأحيانًا الجناة. وغالبًا ما يكون المفوضون مواطنين بارزين يتم اختيارهم على أساس نزاهتهم، وقد تسعى اللجان إلى أن تكون متوازنة ومحايدة سياسيًا.

غالبًا ما تركز لجان الحقيقة على أنماط التفاعل وهياكل المؤسسات التي سمحت أو عاقبت أو روجت لانتهاكات حقوق الإنسان، بدلاً من التركيز فقط على الجناة الأفراد. وقد تدرس أيضًا دور قطاعات مختلفة من المجتمع، مثل وسائل الإعلام والقانون والصحة والأعمال التجارية، في دعم النظام السابق.

أنشأت العديد من البلدان لجان الحقيقة. في جنوب إفريقيا، جلس الضحايا والجناة في نفس الغرفة، ولا يفصل بينهم سوى طاولة وثقل التاريخ. كان الجاني يتحدث عما فعله، وأحياناً بتفاصيل مؤلمة، فيما تحدث الضحايا عما وقع بهم. لم يصدر أي قاضٍ حكماً. كان من المفترض أن تكون الحقيقة نفسها هي الحكم والعلاج. كما رأينا لجان الحقيقة في الأرجنتين، وتشيلي، والسلفادور، وغواتيمالا، وهندوراس، وهايتي، وسيراليون، وأوغندا، وتشاد. وقد تنوعت هذه اللجان في تفويضاتها ونهجها، مما يعكس الظروف الفريدة لكل بلد. تخدم هذه اللجان غرضاً آخر، فهي تكافح “ثقب الذاكرة” الذي تخلقه الأنظمة الشمولية. عندما تقضي دولة عقوداً في تزوير السجلات وتدمير الأدلة وإجبار الناس على تكرار الأكاذيب، يصبح الفعل البسيط المتمثل في قول الحقيقة ثورياً.

الأداة الثالثة هي التعويضات، ولكن ليس بالمعنى البسيط لدفع ثمن الممتلكات المتضررة. كيف يحسب المرء قيمة الطفولة المسروقة؟ ما تعويض عشرون عاماً من الخوف؟ مهمة التعويضات في العدالة الانتقالية ليست فقط التعويض، بل الاعتراف بها. عندما تدفع الحكومة تعويضات للضحايا، فهي لا تقتصر على تحويل الأموال فحسب – بل إنها نقل الاعتراف، وتقول رسميا: “لقد حدث هذا، كان خطأ، ونحن كمجتمع نعترف بمعاناتك”.

ولعل الأداة الأكثر إثارة للجدل هي الإصلاحات المؤسسية– عملية إزاحة أولئك الذين خدموا النظام القديم من السلطة. تخيل مدرسة حيث طلب من المعلمين، لعقود من الزمان، تلقين الطلاب بدلاً من تعليمهم. عندما يسقط النظام، ماذا نفعل بهؤلاء المعلمين؟ إذا طردناهم سنفقد خبرات ضرورية. إذا احتفظنا بهم فإننا نخاطر بإدامة العادات القديمة. هذا هو المكان الذي يجب أن توازن فيه العدالة الانتقالية بين المبدأ والتطبيق العملي. إن الإصلاحات المؤسسية، وهي ركيزة أخرى من ركائز العدالة الانتقالية، تسعى إلى تفكيك الهياكل التي مكنت من الانتهاكات الماضية. وتهدف هذه الإصلاحات إلى إنشاء أنظمة تحمي حقوق الإنسان، وتدعم العدالة، وتعزز المساواة.

كما أن إصلاح المؤسسات ــ قوات الشرطة، والمحاكم، والهياكل العسكرية ــ ليس بالأمر الهين. فهو يتطلب الإرادة السياسية والإجماع المجتمعي. ويتعين على هذه العملية أن تتنقل على الخط الرفيع بين معالجة التواطؤ في الماضي وضمان بقاء المؤسسات فعّالة خلال فترات الانتقال. وبدون هذه الإصلاحات، فإن الوعد بالعدالة يخاطر بالتحول إلى صدى فارغ.

ثم هناك معمار الذاكرة– الأثر الفكري للاستبداد. يقول البعض اليوم: “لقد سقط النظام وانتهى. ما فائدة توثيق الانتهاكات الآن، هذا الجهد كان مفيدًا لفضحه يوم كان في السلطة”. في العديد من دول الكتلة السوفيتية السابقة، يمكن للمواطنين الآن قراءة ملفات الشرطة السرية الخاصة بهم، ليقرأوا أن ترقيتهم توقفت بسبب نكتة سياسية في العمل، وليس بسبب الأداء الوظيفي، وأن طلاق زوجين كان بسبب ولاءات حزبية. تعمل هكذا أرشيفات كدليل وتحذير، حيث توضح كيف عملت آلية القمع وتساعد على تفكيكها، وكدليل لمنع تكرارها. كما يساعد الأرشيف على تخليد ذكرى الضحايا، وهو فعل رمزي عميق، يرسخ عملية العدالة غير الملموسة في المشهدين اللامادي والثقافي.

ولكن ربما تكون الأداة الأقوى هي إصلاح التعليم. يجب أن تعلم العدالة الانتقالية المجتمع أن يقرأ تاريخه من جديد. هذا يعني إعادة كتابة الكتب المدرسية، ولكن الأهم من ذلك، أنه يعني تعليم الناس كيفية التفكير النقدي في الماضي. لا يكفي استبدال تاريخ رسمي بآخر. يجب أن يتعلم الناس التشكيك والتفاعل مع التواريخ الرسمية.

هذه الأدوات ليست حلولاً سحرية. إنها أشبه بمشرط الجراح– تعتمد فعاليتها كلياً على كيفية استخدامها، ووقت تطبيقها، والأهم من ذلك، ما إذا كان المجتمع مستعداً للعملية التي يقوم بها. لذلك من المهم مناقشة التحديات والمعضلات التي تنشأ عند استخدام هذه الأدوات، لأن الطريق من الاضطهاد إلى الحرية ليس مستقيما أبداً، والنوايا الحسنة وحدها ليست كافية لضمان النجاح.

صورة كوميك تظهر رجل مرتعب مع اقتباس من مقالة عن العدالة الانتقالية

ظل الأمس: التحديات والمعضلات

لنتأمل هنا أمة بُني فيها كل عمل مهم على ممتلكات مسروقة، وكل مؤسسة كبرى يعمل بها أولئك الذين تعاونوا مع النظام، وعانت كل عائلة من شخص خدم النظام أو تنفع منه. من أين تبدأ؟ إنه مثل محاولة كشف عقدة حيث يهدد سحب أي خيط بشد الوثاق حول خيط آخر.

التحدي الأول هو ما يمكن أن نسميه مفارقة العقاب المشروع. يجب أن يستمد الذين انقلبوا على النظام القديم سلطتهم من مكان ما. لكن إذا كانت السلطات الجديدة منفصلة تماماً عن النظام القديم، فقد تفتقر إلى السلطة العملية، وإذا كان لديها الكثير من الروابط به، فإنهم يفتقرون إلى السلطة الأخلاقية.

ثم هناك مشكلة الذنب الجماعي. يتغلل التعاون مع الأنظمة الشمولية، إلى جميع طبقات الشعب، وهكذا لا يمكن حصر “النظام” بعدد محدود من المؤيدين. خذ حالة مدير مؤسسة حكومية اتبع أوامر بفصل العمال بسبب معتقداتهم السياسية. هل كان مرتكباً للاضطهاد أم أحد الضحايا أيضاً؟ هل قامت المعلمة التي درست دعاية النظام بعملها فقط، أم أنها كانت تساعد في تسميم عقول الشباب؟ هذه الأسئلة ليس لها إجابات نظيفة، ومع ذلك يجب أن تعالجها العدالة الانتقالية بطريقة ما.

تمثل مشكلة الوقت معضلة قاسية أخرى. إذا تصرفت بسرعة كبيرة، فإنك تخاطر بارتكاب الأخطاء أو زعزعة استقرار المجتمع. إذا انتظرت طويلاً تختفي الأدلة، وتتلاشى الذكريات، ويهرب الجناة من العدالة، وتبدأ عمليات الثأر العشوائية.

وربما يكون التحدي الأكثر غدراً هو ما ذكره أورويل على أنه مشكلة الحقيقة نفسها. بعد عقود من العيش في ظل نظام حيث كانت الحقيقة هي ما أعلنه الحزب الواحد، كيف يتعلم الناس الوثوق بأي رواية رسمية للأحداث؟ عندما تقدم لجنة الحقيقة نتائجها، فلماذا يجب أن يصدقها الناس أكثر مما كانوا يصدقون دعاية الأمس؟

رسمة كوميك تظهر امرأة نائمة وتحلم بكابوس، مع اقتباس عن العدالة الانتقالية

 وعد الغد: الآثار والدروس طويلة المدى

بعد عشرين عاماً من اليوم سيأتي جيل لم يختبر أبدا النظام القديم بشكل مباشر، ومع ذلك فإن ظلال النظام ستخيم على حياته من خلال القصص العائلية والموروثات المؤسسية وعدم المساواة الاقتصادية التي لا تزال قائمة مثل النسيج الندبي للجروح القديمة. سيحدد نجاح أو فشل العدالة الانتقالية إلى حد كبير ما إذا كان الجيل القادم سيرث مجتمعاً لا يزال يعاني من ماضيه أو مجتمعاً تعلم السير بحرية نحو مستقبله.

تعلمنا العدالة الانتقالية أن الانتقال الديموقراطي للسلطة لا يتعلق فقط بأنظمة التصويت والدساتير. يتعلق الأمر بإنشاء مجتمع لا تكون فيه الحقيقة سلعة يسيطر عليها الأقوياء. وهذا يتطلب يقظة مستمرة. وقد تعلمت بعض الدول هذا الدرس أفضل من غيرها. أولئك الذين سعوا إلى تحقيق العدالة الانتقالية بدقة، وإن كان بشكل غير كامل، يميلون إلى امتلاك مؤسسات ديمقراطية أقوى اليوم. أولئك الذين اختاروا “طي الصفحة” دون قراءتها أولاً غالبا ما يجدون ماضيهم يعود ليطاردهم.

قد يكون الدرس الأكثر أهمية هو ما يلي: لا تتعلق العدالة الانتقالية بسد الفجوة بين الديكتاتورية والديمقراطية فقط، بل بفهم مدى سهولة عبور هذه الفجوة في الاتجاه الآخر. عندما نفهم كيف يمكن أن تفسد أنظمة العدالة، وكيف يمكن أن تنقلب المؤسسات ضد الأشخاص الذين يجب أن تخدمهم، وكيف يمكن تصنيع الحقيقة والتلاعب بها، نصبح مجهزين بشكل أفضل لمنع التاريخ من تكرار نفسه.

على عكس ما يعتقده البعض بسبب اسمها، لا يمكن قياس نجاح العدالة الانتقالية بسنوات بل بأجيال. لا يكمن اختبارها الحقيقي فيما إذا صححت أخطاء الماضي كلياً -وهو أمرٌ مستحيل عمليًا- ولكن ما إذا كانت تساعد في خلق مجتمع يصبح فيه ارتكاب مثل هذه الأخطاء أكثر صعوبة ويستحيل إخفاءه.

كتبها:

رافاييل لايساندر