, ,

حامية المدينة في خطر

عندما تصل إلى الجامع الأموي وسوق المدينة قادمًا من السبع بحرات، ثم تتجه صعودًا نحو قلعة حلب، وتبدأ برؤية أطرافها، تصدمك القلعة بهيبتها ووقارها. لا تشبه قلعة حلب أي قلعة أخرى قد تكون رأيتها، وعندما ترى الناس يحجون إليها، ويطوفون حولها باتجاه بوابتها الرئيسية، لا يمكن إلا أن تشعر بقداسة المشهد. تعطي قلعة حلب، لسبب ما، إحساسًا بأنها كائن حي ضخم يجلس على التلة ويراقب الناس بصبر وحنان وهم يدورون حولها. رغم هذا الاهتمام، فإن الحنونة المهيبة تتعرض للهجوم، لا من قبل آلات الحصار القديمة، ولكن من قبل أولادها أنفسهم.

بعد أن كانت منيعة في السابق ضد جيوش تيمور وطموحات الصليبيين، تخضع القلعة الآن لقوى لم يكن أي مهندس قديم ليتمكن من تحصينها ضدها. عندما دخل أوائل الثوار إلى حلب، توجه الإعلاميون إلى جوهرتها لإثبات السيطرة عليها أمام شائعات النظام، وراحوا يأخذون الصور على أسوارها. لم يكف التصوير أمامها، بل شعر البعض بحاجة لتسلق حجارتها والارتقاء عاليًا، في إظهار للقوة والغلبة. تحول الأمر سريعًا إلى “ترند”، وبدأ التسلل غير المنظم للجماهير الغافلة والتدهور البطيء والمطحن لبيئتها. من عجيب المفارقات المريرة أن نفس الناس الذين يزعمون أن القلعة رمز للفخر يعرضون وجودها للخطر الآن.

الطريق المهيب إلى القلعة

الوصول العام غير المنظم

في عصر ينتصر فيه الزائل على الأبدي، أصبحت أحجار قلعة حلب، التي تآكلت بفعل قرون من الفتوحات، تحمل الآن ثقلاً أكثر وطئه. فمن كل ركن من أركان سوريا، لا يأتي الناس كحجاج يقدسون عبقرية أسلافهم، بل كمشاركين في مشهد عابر. وتزدحم السيارات بالأسوار المحيطة، وتلوث محركاتها الهواء ببقايا الحداثة اللاذعة. ويتسلق الزوار فوق الحواجز القديمة، ليس للدفاع ضد الغزاة، بل لتأمين صورة عابرة ــ “السيلفي” في كل مكان ــ استهزاء بالوقار الذي كان من المفترض أن تلهمه تلك الأحجار.

لقد أصبحت الساحة التي كانت ذات يوم ساحة للسلاطين والشعراء، مصفًا للسيارات. في العادة يمنع الدخول لساحة القلعة، ولكن منذ بداية الأجواء الاحتفالية، يصر الناس على الدخول بسياراتهم ودراجاتهم إلى بوابة القلعة مباشرة. لا يستغرق المسير من الشارع إلى البوابة إلا 3 دقائق، ومع ذلك يدخل الجميع بسيارتهم إلى الموقع، لأخذ صورة للسيارة أمام البوابة. ولا يشكلون خطرًا على القلعة وحدها، فمحيطها مكتظ بالمباني التاريخية التي لا تقل أهمية عن القلعة، بعضها مهدم بالفعل ويعاني آثار الحرب، ويشكل مرور السيارات من فوقه خطرًا حقيقيًا.

يفتح الوصول غير المنظم أيضًا الباب واسعًا للفلتان، وصعوبة تأمين المعالم. وسط الازدحام، وغياب الحراسة، يستطيع أي شخص أن يأخذ أي حجر، أو يضع “ذكراه” على أي عمل فني تراثي. لا يفعل الكثيرون ذلك عن سوء نية، ولكن وجدنا البعض يحمل حجارة من مبنى أثري مجاور للقلعة ويستخدمها لمنع سيارته من زول المنحدر. قد يكون هذا الحجر نجى من مئات المعارك عبر آلاف السنين، لينتهي به كركيزة عجلة. وتحول خان الوزير العريق الذي استقبل السلاطين والمفكرين إلى مرآب للسيارات.

الواقع أن هذا الترند، ووسائل التواصل الاجتماعي، نجحت في لفت الانتباه إلى التراث السوري. ومع ذلك، فإن مثل هذا الاستحسان يشكل سلاحاً ذا حدين. إن المد الهائل من الزوار، غير المنظمين وغير المدركين، قد ألحق بالمعلم التاريخي ما لم يكن بوسع أكباش الاقتحام، أو المنجنيقات أن تحققه: التآكل التدريجي.

إن هذه مأساة ليس فقط بالنسبة لحلب، بل وللعالم أجمع. إن القلعة ليست مجرد بقايا من الماضي، بل إنها شهادة على الإبداع البشري والقدرة على الصمود. إنها رمز لحضارة تحملت تجارب لا حصر لها، وتذكير بهشاشة حضارتنا. ومع ذلك، في سعينا وراء الملذات العابرة، فإننا نتسبب في تآكل الأسس ذاتها التي بنيت عليها ثقافتنا.

بالطبع، وكأي ترند رائج، فإن هذه الصيحة لا تطول، إلا أن المشكلة ليست مجرد اكتظاظ. إنها عَرَض لمرض أعمق ــ الافتقار إلى احترام الماضي وتجاهل المستقبل. فنحن منشغلون باللحظة الحالية إلى الحد الذي يجعلنا نفشل في تقدير أهمية الماضي أو عواقب أفعالنا على المستقبل. إننا نتعامل مع المواقع التاريخية باعتبارها مجرد خلفيات لانغماسنا في الملذات، غافلين عن الضرر الذي نلحقه بها.

وهذا لا يعني أننا يجب أن نحرم الناس من الوصول إلى هذه المواقع. بل على العكس من ذلك، يجب أن نسعى جاهدين لجعلها أكثر سهولة في الوصول إليها من قبل الجميع. ولكن يجب أن نفعل ذلك بطريقة تحترم أهميتها التاريخية والثقافية. ونحن بحاجة إلى تنفيذ لوائح أكثر صرامة لتنظيم الزوار وتفاعلهم مع المعالم الأثرية، وضمان إدراكهم لأهمية الحفاظ على هذه المواقع. ونحن بحاجة أيضًا إلى تثقيف الناس حول تاريخ وأهمية هذه الأماكن، وتشجيعهم على التعامل معها بطريقة محترمة وذات مغزى.

فيديو يظهر بوضوح تواجد السيارات والدراجات النارية على أسوار القلعة، بالإضافة لصعود الزوار على البوابة

الطريق إلى الأمام: استعادة الاحترام

لا بد أن تجو قلعة حلب تنجو من أحضان معجبيها المتهاونين. ولابد أن تفرض القيود على دخول المركبات إليها، حتى تعود المنطقة المحيطة بالقلعة إلى الهدوء الذي يليق بمكانتها. ولابد أن تعمل خطط إدارة الزوار، التي تسترشد برؤى علماء الآثار والمحافظين على التراث، على توجيه حماسة الجمهور إلى شكل يكرم القلعة بدلاً من التقليل من شأنها.

إن التعليم أيضاً يشكل أهمية قصوى. ولابد وأن نذكر المواطنين بأن هذه الأحجار ليست مجرد زينة بل هي الأساس الدائم لهويتهم. والقلعة، مثلها كمثل كل المعالم العظيمة، لا تنتمي إلى هذا الجيل فحسب، بل وأيضاً إلى كل من سيأتي بعده. وإهمالها الآن يعني خيانة إرث الماضي ووعد المستقبل. في زيارتنا للقلعة، سمعنا أحد الزوار الشباب يقف مستغربًا أمام القلعة ويخبر صديقه بالحرف: “هي شوية حجار مصفوفة”. هذا الإطار الفكري هو نتيجة سنوات من الحرب التي قيدت تفكير الناس بأن ما يهم فقط هو النصر، وتوفير لقمة العيش، أما التراث والثقافة فهما مكملات المجتمع المرفه.

ترميم القلعة ليس مجرد مسألة تتعلق بالحفاظ على بنية مادية؛ بل إنه ضرورة أخلاقية. وهو اعتراف بديننا للماضي ومسؤوليتنا تجاه المستقبل. إننا من خلال حماية هذا النصب التذكاري لا نحمي قطعة من التاريخ فحسب، بل ونستثمر أيضاً في مستقبل حضارتنا.

صورة من وسائل التواصل الاجتماعي تظهر سيارة فوق آثار تدمر من أجل التصوير. يلاحظ أن الصورة نشرة للافتخار بالسيارة على الآثار في الخلفية

إن اللامبالاة التي نتعامل بها مع تراثنا الثقافي هي أحد أعراض مرض أعمق ــ الافتقار إلى احترام الماضي وتجاهل المستقبل. ويتعين علينا أن نزرع في نفوسنا شعوراً بالاحترام للماضي، مع الاعتراف بأنه الأساس الذي يبنى عليه حاضرنا ومستقبلنا. ومن خلال القيام بذلك، يمكننا ضمان حصول الأجيال القادمة على الفرصة لتقدير إنجازات أسلافهم والتعلم منها.

بالطبع، قلعة حلب هي مثال فقط، وهذا مثال آخر لصورة انتشرت على وسائل التواصل الاجتماعي لصاحب سيارة يفاخر بأنها في تدمر. نلاحظ أن وقوف السيارة فوق منطقة أثرية هشة مشكلة خطيرة، ولكن فخره بالسيارة أكثر من التراث العريق الذي صار في الخلفية، مشكلة مجتمعية أعمق وأخطر.

مرثية للإهمال

في حالتها الحالية، تقف قلعة حلب كنصب تذكاري ومرآة في الوقت نفسه. فهي تعكس مرونة ثقافة تحملت الحرب والدمار، ولكنها تعكس أيضًا إهمال عصر يقدّر الزوال على الدوام. وإذا كان التاريخ هو الحكم على كل الحماقات، فلا ينبغي له أن يسجل أنه في السنوات التي تلت نهاية الحرب، سقطت القلعة، لا بفعل الاقتتال، بل بتدافع المصورين.

نعلم أنه بعد هذه الحرب الطويلة، تنصب الأولويات على تشكيل النظام السياسي والاقتصادي، وخلق استقرار مجتمعي، إلا أن الحفاظ على التراث التاريخي يعني الحفاظ على أنفسنا، ففي بقائه يكمن الدليل على أننا، مثل حجارة قلعة حلب، يمكننا تحمل ويلات الزمن والخروج منها بصورة أفضل.

أعدها فريق ميتامورفوسيس