خلال الأيام العشر لسيطرة قوات المعارضة على سوريا، لم يظهر بشار الأسد مرة واحدة لتطمين مواطنيه، وجنوده الذين يخسرون حيواتهم ليبقى على كرسيه، بخصوص فقدان ثاني أكبر مدن سوريا، ولا الخطط المستقبلية بعد وصولهم إلى حماة، ولا حتى قبل أن يغادر البلد هاربًا.
ذات الأمر يحدث الآن مع قوات الثوار– والتي لا نعلم ما نسميها غير ذلك لأنه ليس من الواضح فيما إذا كانت القوات التي سيطرت على العاصمة تمثل هيئة تحرير الشام، غرفة عمليات ردع العدوان، الجيش الحر، كل السوريين، أم ماذا تحديدًا. منذ لحظة إعلان سقوط الأسد وحتى بعد يومين كاملين لم يظهر أحمد الشرع أو رئيس الحكومة الذي كلفه ببيان واحد موجه لشرح رؤيتهم لطبيعة المرحلة القادمة وما يخططونه. حتى إعلان سقوط نظام بشار الأسد على التلفزيون الرسمي، كان بعيدًا عن التاريخية، وأشبه بلحظات جمهوريات الموز، حيث ظهرت مجموعة من الشباب المسلحين بشكل عشوائي، وأحدهم يضع يده على كتف الآخر، فيما قرأ آخر البيان مُتأتأً، واستهله باسم غرفة عمليات الجنوب.
حتى القول بأن أحمد الشرع يجب أن يخرج ببيان للشعب يبدو غريبًا بعض الشيء. صحيح أن القوات بقيادته هي التي عملت على إسقاط النظام عسكريًا خلال الأيام الماضية، وفضله وفضل المجاهدين على رؤوسنا إلى الأبد، لكن لا يجب أن ننسى أنه لا يمثل عامة الشعب، ولا عامة القوى العاملة في سوريا. يبدو المشهد العام وكأنه ينظم حدود منطقته في إدلب ولكنها توسعت هذه المرة حتى دمشق، فيما لايزال هنالك “حكومة مؤقتة” شمال حلب تمارس سلطاتها بمعزل عما يجري في دمشق، بالإضافة لقوات سوريا الديموقراطية، وفصائل الكرامة في السويداء، وغرفة عمليات الجنوب في درعا.
يقدم لنا التاريخ صورة تحذيرية عما يحدث عندما يهمل القادة الثوريون هذه المسؤولية الأساسية. ولنتأمل الثورة الفرنسية عام 1789. فقد مُلئت قلوب الناس بالفرح من نهاية الطغيان. ولكن مع تحول الثورة إلى انقسامات فئوية، بلغت ذروتها في عهد الإرهاب، أدى غياب استراتيجية واضحة وموحدة إلى خيبة أمل الناس. لقد طغت عمليات التطهير والجنون على رؤية الجمهورية، وفي هذا الفراغ، لم يعد صعود نابليون بونابرت إلى الحكم الاستبدادي ممكناً فحسب، بل أصبح موضع ترحيب من قِبَل كثيرين.
إذا قارنا هذا بالثورة الأميركية، عندما صاغ قادتها ــ على الرغم من عيوبهم ــ رؤيتهم من خلال وثائق تأسيسية مثل إعلان الاستقلال ووثائق الفيدرالية. وانخرطوا في مناقشات لم تكن أكاديمية فحسب، بل كانت متجذرة في المخاوف العملية لأمة جديدة. وقد خلق هذا التواصل شعوراً مشتركاً بالهدف، حتى في خضم الخلافات، وأرسى الأساس لمؤسسات استمرت حتى يومنا. كم سيكون جميلاً اليوم في السوريا الاتفاق على مبادئ رئيسية عامة، واختلفنا ما شئنا بعدها على الفرعيات.
تعطينا الثورة الروسية درساً آخر. حيث لم ينجح البلاشفة بقيادة لينين فقط من خلال القوة وإنما أيضًا عبر وضوح شعاراتهم: السلام والأرض والخبز. لقد جسدت هذه الكلمات البسيطة ولكن القوية رؤيتهم، وتردد صداها في أذهان الجنود المنهكين من الحرب، والفلاحين الذين لا يملكون أرضاً، والعمال الجائعين. ورغم أن واقع الحكم السوفييتي كان غالباً ما يخون هذه الوعود، فإن أهمية التواصل الأولي لا يمكن المبالغة فيها، فقد عززت سلطة البلاشفة في لحظة فوضوية.
من حق الشعب أن يعرف من الذي يتخذ القرار في هذا الوقت الحرج من تاريخ سوريا، هل الحكومة التي اختاراها الشرع هي حكومة تسيير أعمال أم حكومة دائمة؟ ووفق أي مبدأ أو مرجعية تفرد الشرع باتخاذ قرار تعيين محمد البشير؟ ما المرجعية التي ستعمل وفقها الحكومة الجديدة؟ ما مصير الفصائل على الأرض؟ ما مصير التوغل الإسرائيلي الذي لم يأت على سيرته أحد؟ ما القانون الذي يتحدث الشرع دائمًا أن سوريا ستكون دولته؟
خلال تواجدي في مناطق المعارضة شمال سوريا، كلما تحدثت مع أحد القضاة أو أصحاب السلطة عن عقوبات أو محاكمات تجري في المنطقة، كنت دائمًا أسألهم: هذه العقوبات التي تنزلونها، والإجراءات التي تتخذونها هي وفقًا لماذا؟ أين يمكنني أن أجد المرجع الذي اعتمدتموه؟
كان هنالك الكثير من اللف والدوران والقليل من الإجابات، ومازالت ذات الضبابية تلف المشهد اليوم. بالطبع هي مرحلة صعبة، وتحتاج للكثير من التخطيط والتواصل، لكن تغييب الشعب عما يحدث، يزيد من التخوف والتوجس، ويغذي التكهنات بنوايا سيئة. ولقد شهدنا هذه الأمر بعد صور معتقلي صيدنايا حيث أن غياب رؤية واضحة للمستقبل جعلت العديدين يظنون أن قرارات العفو تشمل مجرمي الحرب، وبدأ الناس أولاً بالمطالبة بمحاسبة ضباط النظام السابق، وتراكمت الأمور حتى بدأ البعض بالتهديد “بحرق القرداحة”. عند هذه المرحلة شعر الشرع بالخطر وأصدر بيانًا بأنه ستتم محاسبة مرتكبي الجرائم وأن العفو يشمل المجندين الإلزاميين فقط.
نحتاج لبيان مشابه، ولكن عن هوية حكومة سلطات الأمر الواقع، وخططهم المستقبلية، ومصير هذه السلطات. الثورة نفسها ليست سوى مقدمة؛ والاختبار الحقيقي يكمن فيما يليها. والحكومة التي تنهض من رماد الثورة لا ينبغي لها أن تحكم فحسب، بل ينبغي لها أيضاً أن تتواصل ــ بوضوح وثبات وإقناع ــ مع الناس الذين وضعوا ثقتهم في وعودها.
في أعقاب أي ثورة، لا يشكل التواصل ملحقاً بالحكم؛ بل هو الحكم. فالناس لا يضحون الدماء من أجل وعود غامضة أو خطابات. يفعلون ذلك لأنهم يؤمنون بمستقبل يستحق التضحية. وفي غياب التعبير الشفاف عن الرؤية والاستراتيجية، يتفاقم السخط، وتنشأ الفصائلية، وتخاطر الثورة بالتهام أطفالها.
إن القيادة بعد الثورة لا تعني وراثة السلطة فحسب، بل وأيضاً المسؤولية. إنها تعني سد الفجوة بين الطموح والواقع، وهي مهمة لا يمكن إنجازها في صمت أو من خلال التعتيم. وإذا فشلت الحكومة في التحدث، أو التفسير، أو التوحيد، فإنها تخاطر بأن تصبح غير قابلة للتمييز عن النظام الذي حلت محله.
كتبها:

