رأس النظام السوري سقط. عقلية البعث ما تزال حية حتى في رؤوس أعتى معارضيه. تحت السطح، لا تزال آلية الحكم وعقلية النظام قائمة، وتستمر في العمل وكأن شيئاً لم يتغير. وهنا، في هذه الحقيقة غير المريحة، يكمن التحدي الحقيقي: ليس في استبدال زعيم بآخر، بل في تفكيك بنية القمع وإعادة تصور النظام نفسه.
ينشغل الناس اليوم بفظائع صيدنايا، وفرع فلسطين، وغيرها من معتقلات النظام، ويفرحون بانتهاء هذه الحقبة، لكن علينا أن أندرك النظام الذي عذب ليس مكونًا من بشار الأسد، أو رئيس الفرع فقط، وإنما الأخطر من العنصر الذي استمتع وتفنن في طرق التعذيب.
في إحدى مناطق المعارضة شمال حلب، سُرقت دراجة نارية لصديق أعرفه، وقبضت سلطات الأمر الواقع على شاب مشكوك في أمره. بعد فترة ذهبنا للمسؤول عن القسم لنسأله عن نتيجة التحقيق فأخبرنا بالحرف الواحد أنه “طعن الشاب مرتين في فخذه ومرة في بطنه، لكن لم يعترف بالسرقة”! عندها أخبره صديقي أنه لم يريد الدراجة ويسامح السارق من يكن.
وفي عفرين بعد دخول الفصائل إليها، جلس أحد المقاتلين مع خالتي يخبرها أنه أصبح مقاتلاً بسبب الظلم الذي رآه من النظام، والتهجير من بيته، لا لأنه يحب العسكرة. هذا المقاتل كان قد جلد ابن خالتي البالغ من العمر 15 عامًا حتى أصبح ظهره كأقدام الفلسطيني-اللبناني المفرج عنه عند سقوط النظام، وضرب رأسه بالصاعق الكهربائي حتى أغمي عليه.
ما يشي به هذا الأمر أن الأيدولوجيات، والدوافع، والانتماءات يمكن أن تتغير، لكن العقليات تبقى ذاتها ما لم يتم استئصالها بتغيير فكري مجتمعي شامل.
إن التاريخ مُعلم لا يكذب في هذا الصدد. لنتأمل سقوط القيصر نيكولاس الثاني في روسيا، الذي بشر بنهاية الاستبداد. ومع ذلك، تبنى البلاشفة الذين جاءوا بعده نفس أساليب السيطرة التي شجبوها ذات يوم. وازدهرت المراقبة والتطهير والدعاية في عهد لينين وستالين، وكأن أشباح الاستبداد القيصري غيرت زيها الرسمي فحسب. لقد تغير الزعيم، ولكن النظام ــ السلطة المركزية، وتجاهل المعارضة ــ ظل كما هو. وتتكرر الأمثلة في ليبيا، وتونس، ومصر، وفرنسا، وغيرها.
معظم الذين قابلتهم في مؤسسات الثورة خلال الثلاثة عشر سنة الماضية هم وجوه أخرى للنظام لكن تحت مؤسسات الثورة– سجن صيدنايا موجود تحت مسميات “المعصرة” و”السجن الأسود” و”سجن كفر جنة” في مناطق المعارضة، ومؤسسات مثل الشرطة العسكرية أعادت تشكيل نفسها في الشمال بذات التجاوزات والمحسوبيات والتعذيب، والكثير من قادة هذه المؤسسات انضموا لصفوف المعارضة فقط لأنه لم يتلقى قبولاً أو يترقى في فرع المخابرات الجوية، أو الأمن العسكري.
حتى على مستوى المواطن العادي. أليس أحد دوافع الثورة هو الغضب من تصرفات وتجاوزات الشبيحة؟ مع ذلك عندما ننظر إلى المناطق التي خرجت عن سلطة النظام خلال السبع سنوات الماضية، نجد أنها تغص بتصرفات التشبيح من عدم الالتزام بأبسط القوانين، مثل الوقوف على إشارة المرور، إلى المحسوبيات في التوظيف والخدمات، والسرقة والسلبطة.
في حادثة مشهورة وقعت في أعزاز، قام مراهق بالقفز إلى داخل المدرسة الثانوية وطعن أحد الطلاب بسبب فتاة. بعد إسعاف الطالب، خرج المدرسون والمدير ليجدوا المجرم يقف يدخن أمام المدرسة بتحدي، فاتصلوا بالشرطة للقبض عليه. بعد أقل من نصف ساعة، اقتحم رجل ضخم غرفة المدير وهو مجتمع مع الكادر التدريسي، ومع الرجل المراهق المجرم. سأله من الذي أخبر الشرطة، فأشار المراهق إلى المدير، لينقض عليه الرجل ويبدأ بتهديده: “نحنا ما عنا ولاد تفوت السجن، سألو أديه طول بالسجن قبل ما فوت وأطلعوا…ما بتعرف مين أنا؟!” حاول المدرسون بكل طاقتهم إفلات المدير من يد الرجل، وعندما طلبوا منه أن يستمع إليهم، أخبرهم أنه لم يأتِ للاستماع لهم بل لتربيتهم.
بعد مدة أيضًا تهجم عسكري مع فرقته على الكادر التدريسي لجامعة شام وجلد المدرسين وسط الشارع. الفرق بين الحادثتين، أنه في الأخيرة قبض، مؤقتًا، على الفاعل بسبب التجييش الإعلامي. مع ذلك، تبقى هذه التصرفات نموذجًا على التشبيح في مناطق ثارت على مثل هذه التصرفات. القضية إذاً ليست قضية أفراد أو جهات، بل قضية تربية وفكر.
أمثال هذه الوقائع كثيرة، لكن الدرس واضح: فالأنظمة لا تُبنى فقط على شخصيات قادتها. وإنما مبنية على القوانين والمؤسسات وعادات التفكير والقواعد غير المعلنة. وقد يسقط الدكتاتور، ولكن جهاز الدكتاتورية ــ آليات السيطرة، والبيروقراطية التي تحكم الامتثال ــ غالبا ما يبقى على قيد الحياة. وإذا تُرِك دون مجابهة، فسوف يجد ببساطة رئيساً جديداً يجلس على عرشه.
ولهذا السبب لابد أن يمتد التركيز دائما إلى ما هو أبعد من الزعيم إلى النظام نفسه. فليس كافيًا أن نطيح بطاغية؛ بل لابد من تفكيك الأدوات التي مكنت الطغيان. إن هذا يتطلب يقظة تتجاوز نشوة التغيير السياسي. ويتطلب طرح أسئلة صعبة: ما المرجعية الأخلاقية للناس؟ ما العقد النفسية التي تدفع الناس لاشتهاء التعذيب؟ ما العوامل البيئية والتربوية التي تشجع على السادية والسلطوية؟ عندما نستكشف هذه الأمور، سنجد أنها لا تؤثر على النظام السياسي فقط، بل حتى على العلاقة بين الأزواج والعائلة، وأننا بحاجة الفلسفة وعلم النفس لبناء نظم حكم سديد بقدر حاجتنا للسياسة والقانون.
إن التغيير الحقيقي يتطلب تحولا في العقلية، وليس فقط في القيادة. ويتطلب منا أن ننظر إلى ما هو أبعد من الوجوه على شاشات التلفزيون إلى سقالة السلطة نفسها. فالثورة التي تتوقف عند أبواب القصر ليست ثورة على الإطلاق – إنها مجرد إعادة ترتيب للديكور في مبنى آيل للسقوط.
إن الخطر الكامن في التركيز بشكل ضيق على الزعيم يكمن في أنه يؤدي إلى الشعور بالرضا عن الذات. فالناس، المنهكون من نضالهم، حريصون على إعلان النصر. وهم لا يرون أن النظام، مثل الحرباء، قد تكيف مع بيئته الجديدة فحسب. وهم لا يرون أن السلاسل قد تغيرت في الشكل، ولكن ليس في الجوهر.
إذا كنا نريد أن نتحرر، فلابد وأن ندرك أن التحرير الحقيقي ليس عمل لحظة بل عمل أجيال. وهو يتطلب تفكيك هياكل القمع لبنة لبنة والبناء من جديد. وعندئذ فقط يمكننا أن نزعم أننا نجحنا في تغيير ليس فقط زعماء النظام، بل والنظام نفسه.
كتبها:

