النص التالي هو مقتطف من تاريخ شفوي نتج عن مقابلة مسجلة مع صباح ب. في 23 تشرين الأول 2023 أجريت المقابلة في أعزاز، من قبل “فاطمة بدوي”، لصالح منظمة ميتامورفوسيس
يجب على القارئ أن يدرك أنه يقرأ تسجيلاً صوتياً، وليس مقابلة مكتوبة، إنه تفريغ تقريبي قد يتضمن أخطاء مطبعية.
الحجم:22 صفحة.
فاطمة: حدثيني عن الزلزال الذي شهدته المنطقة منذ عدة أشهر. أود أن أسمع منك سردًا عن تلك الأحداث والمشاعر التي عشتيها، المكان والزمان الذي وقع فيه الزلزال، منزلك؟
صباح: ما عشته من الأحداث؟
فاطمة: نعم وماذا فعلتِ عندما وقعت الحادثة، تفضلي؟
صباح: زادكِ الله من فضله. بدايةً، كوني أعيش في منزل وسط بستان مجاور للمدينة. وفي ليالي الشتاء الطويلة نذهب إلى أقاربنا لنقضي الوقت ونستمتع معاً. كنا نقضي تلك الليلة في منزل أخي، الليلة التي وقع فيها الزلزال.
فاطمة: في أي وقت حدث الزلزال؟
صباح: كنا نتسامر ونتبادل أطراف الحديث بسعادة غامرة، إذ لم يخطر على بالي أحدنا حدوث أي طارئ. كانت ليلة لا تختلف أبدًا عن ليالينا وأيامنا المعتادة. غادرنا منزل أخي عند الساعة الثالثة وخمسٌ وأربعون دقيقة.
فاطمة: هل تذكرين تاريخ تلك الليلة يا صباح؟
صباح: نعم، يوم الاثنين الموافق 6-2-2023. حيث وقع الزلزال عند الساعة الرابعة والربع فجرًا.
وصلنا المنزل توضأت وأقمتُ صلاة الفجر ثم خلدنا إلى النوم. حينها شعرتُ باهتزاز تحتي، قلت في نفسي لا بد وأنه وهمٌ قد يحصل ذلك من التعب والسهر الطويل. لكن بعدها شعرت بأن الأرض تخفق. وقفتُ على الفور ليخطر ببالي أنها هزة خفيفة.
فاطمة: هزة أرضية!
صباح: (مُؤكدة) نعم هزة أرضية. لأنني شعرت أن الأرض تفور كالبركان، وليست هزة خفيفة كالمعتاد. تزداد قوتها وكأن شيئًا ما يكاد أن ينفجر.
فاطمة: هل عشتِ شعور الهزة من قبل؟
صباح: حدث من قبل عدة هزات كانت خفيفة، تهتز المباني على إثرها قليلاً وينتهي كل شيء بعد ذلك.
فاطمة: هل حدث هذا قبل وقتٍ طويل؟
صباح: تقريبًا كانت قبل خمس سنوات، وأُخرى منذ 10 سنوات، خفيفات وبحسب أقوال الكبار أنها هزة وتنتهي. لم نكن نعلم أبدًا أن هناك زلزال وبقوة كبيرة.
عندما ازدادت قوة الهزة كان زوجي غارقًا بالنوم. نهضتُ من فراشي فورًا وتمالكني شعور الخوف لدرجة أني لم أنادي على زوجي. كنت أحاول التأكد مما يحدث.
فاطمة: هنا بدأت الهزة الكبيرة، الزلزال!
صباح: لم تحدث الهزة القوية بعد، حيث اهتزت الأرض مرتين على التوالي. شعرت ثمة شيء ما سينفجر فوقي.
فاطمة: بما أن منزلكم بعيد عن المدينة هل شعرتِ بذلك أكثر؟
صباح: كنت مستيقظة حدثت هزة قبل الزلزال القوي. أغلب الناس كانوا نائمين لذلك لم يشعروا بالهزة التي سبقت الزلزال، شعروا فقط بهول الزلزال الأخير.
فاطمة: صحيح.
صباح: كنت مستيقظة منذ الثواني الأولى، أتوضأ كي لا تفوتني صلاة الفجر. بدأت الأرض بالفوران، ولأن منزلي واقعٌ في البرية غير مُحاط في الأبنية والعمار، تشعرني بالهزة أقوى من باقي البيوت. لأن الأبنية مرصوصة جنبً إلى جنب لم يشعروا مثلما شعرت.
فاطمة: نعم.
صباح: وقفتُ مسرعةً ومن شدة قوتها شعرتُ بالدوار الشديد، تمكنت من الاستناد إلى الحائط كي لا أسقط. هنا استيقظ زوجي عند الهزة الأولى، بدأت الجدران بالتصدع والتشقق (صوت دراجة نارية في الخلفية). حاولت الهروب إلى الخارج -أرض الديار- لكن زوجي منعي وقال لي عليكِ البقاء هنا. كان يتوقع أن النظام يريد قصفنا.
فاطمة: أي قصف؟
صباح: نعم قصف طيران حربي أو صورايخ شيء من هذا القبيل. أمسك بيدي وطلب مني البقاء بجوار الحائط. وأنا يا روح ما بعدك روح، أشعر وكأن الأرض ستنشق وتبلعنا. لأن الاهتزاز تزداد قوتها أكثر فأكثر. وتصدر الجدران صوت طقطقة، هذا الصوت الذي كلما سمعته سيطر علي الخوف وأحسستُ بجسمي يرجف.
خرجتُ من الغرفة -إلى أرض الديار- عندما شعر زوجي بالخطر القوي وأن ذلك لم يكن هزة صغيرة أو صاروخ. صوت طقطقة وأرض تتحرك وتصدر صوتًا. وقفنا في أرض الديار وقال لي زوجي: “لا تخافي” بدأتُ أُردد “يا لطيف، يا رب يا لطيف، يا لطيف تلطف فينا” واستحضرتني آية كريمة من القرآن: يوم تلتفُ الساق بالساق، وإلى ربك يومئذ المساق.
فاطمة: صحيح
صباح: نظرت من حولي لأرى أن الجدران تميل فوق بعضها وكأنها صندوق (كرتونة) فالمنزل غير مُحاط بالأبنية نهائيًا، فقط أشجار زيتون. مالَ بابُ البيت، وسقطت فوقنا شجرة العنب (العريشة). عندما رأيت هذه المشاهد والأهوال قلتُ في نفسي قُضيَ أمرنا ولا يوم بعد اليوم. ثمة صوتٌ قوي ومخيف.
تنهدت صباح ثم تابعت
أسرعتُ نحو باب البيت للهروب لسوء الحظ لم أتمكن من فتحه بسبب ميول الجدران فوق بعضها علق الباب. سحبني زوجي للوراء وأخبرني أن نبقى قليلاً في منتصف أرض الدار.
فاطمة: أتذكرين هطول الأمطار في تلك الأثناء سبحان الله وبرد شديد؟
صباح: كانت الأمطار غزيرة قبل يومين.
فاطمة: كان فصل الشتاء
صباح: نعم فصل الشتاء وقت المربعانية، الجو بارد مائل للصقيع. عندما تمكنا من فتح الباب خرجتُ بدون أن ارتدي الحجاب وبملابس النوم. إذ دفعني زوجي نحو الخارج، سمعت صوت الأرض وشعرت أنه يوم القيامة، حان يوم الحساب لكل بني آدم، لم نعد نرى بعضنا البعض.
حصل تماس كهربائي وضوء أحمر لمع في السماء، حدثتُ نفسي أن الشمس ستشرق من الغرب حتمًا، أكبر همي أن أنطق الشهادتين، كنت أكبر بسم الله وأردد يا لطيف. كان ظلام شديد سمعت صوت الجدران تنهار، والأبواب تُقبع والزجاج يتكسر شعرتُ بخلل في رأسي لم أعد قادرة على استيعاب شيء من هول الصدمة. تدمر كل ما في المطبخ، ودفعني زوجي للخارج.
فاطمة: ناهيك عن رهبة الهزة والزلزال، أيضًا صوت الجدران والزجاج يزيد من الخوف.
صباح: تمامًا كنت أتأكد ما أن سقط فوقي شيء ما، هل مازلتُ على قيد الحياة؟ انقطعت الكهرباء والأمطار غزيرة وبرد قارص. جُل همنا أنا وزجي هو الخروج من المنزل كي لا يسقط فوقنا الجدار ونموت.
ظننتُ أن الخارج مكانًا آمنًا، أثناء هروبي سقطت أرضًا وتمرغتُ في الطين (استخدمت صباح مصطلحًا عاميًا) والتفت ساقاي ببعضها، عندها تذكرت الآية الكريمة (والتفت الساقُ بالساق) لأُثبت لنفسي أنه يوم القيامة فعلاً. وقفنا خارجًا عندما ازدادت الهزة أكثر.
فاطمة: كنتم في الخارج؟
صباح: ارتفع صوت الأرض. قلت لزوجي أن الأرض تفور سنموت قد قامت الساعة. أمسك زوجي بيدي وطلب مني أن أهدئ “طولي بالك، صلي على النبي”. (رن الهاتف) كنت متمسكة بشجرة زيتون وما جعلني أفقد صوابي صراخ ونواح الناس، نظرت يسارًا لأرى مباني وبيوت تنهار، وعن اليمين أناسٌ فروا بملابسهم الداخلية نحو أراضي الزيتون ليحموا أرواحهم من المباني.
فاطمة: تقصدين ثياب النوم؟
صباح: نعم ثياب النوم، لأنه فصل الشتاء وعند الفجر الناس نيام بملابسهم العادية فلم يخطر على بالي أحد أن يحصل ما حصل. ما قد يُراود تفكيرنا هو أمَّ غارات الطيران أو قذائف ليس إلا.
فاطمة: بما أننا نعيش تجربة الحرب..
صباح: مازلنا نعيش في حرب..
فاطمة: فمثل هذه الظواهر تعتقدين أنه قصف..
صباح: نعم أننا تأقلمنا عندما يحدث قصف نتوقع أنهم سيضربون الأبنية المجاورة لنا وهكذا. أي أن جميع الناس قاست نفس التجربة.
فاطمة: تمامًا، ونقطة ثانية أثناء القصف نستطيع معرفة المنطقة المستهدفة. لكن حادثة الزلزال هذه لا نعلم إلى أين سوف نذهب!
صباح: وكأننا في يوم الحشر. لم يشعروا الأشخاص الذين يعيشون في المباني بما شعرته أنا كوني أعيش في أرض الزيتون. رغم خوفي رأيت جدران منزلي كيف تنهار من جهة، ومن جهة أخرى صياح الناس، فالبعض يحملون أطفالهم ومن بينهم نساء كبار السن. هناك من سقطت عليهم البلوكات. كنت أسمع صوت البلوكات عندما تقع فوق جثث العالم وفوق رؤوسهم وظهورهم. وشعرتُ بخوفٍ شديد. لكن أكثر مشهد أخافني بشكل كبير فمازلتُ استحضر هذا المشهد وأشعر بذات الخوف (عبرت صباح بقول: لهلق الو رهبة بقلبي) عندما أمسكتُ بحبة الزيتون ونظرتُ لها، سأظل أتحدث عن هذا الشعور ما حييت، وسأخبره لأحفادي كي يذكروا أنفسهم به.
فاطمة: ما هو؟
بدأت تظهر على صباح علامات الخوف والتوتر وشدت على يديها
صباح: سبحان الله، قد ذُكرت هذه المشاهد جميعها في القرآن الكريم. وعشنا لحظاتٌ قليلة مما سنراها عندما يحين موعد الحساب.
فاطمة: كنتِ تشعرين بالخوف؟
صباح: كان شعوري أنني…
فاطمة: رهبة؟
صباح: لا الأمر ليس كذلك. شعوري كان محصورٍ بأنني سأموت لا مفر.
فاطمة: أي شعور الخوف!
صباح: الخوف من تقصيري في صلاتي وديني. كنت ادعي الله لرؤية أهلي (يارب بدي أشوف أهلي). شعرت أن حياتي انتهت هنا تحت شجرة الزيتون. عندما كنت أمسك بشجرة الزيتون وأردد يا لطيف، بدأت أقدامي ترجف، وشعرت بالغثيان وصداع سقطت أرضًا ولم أعد أقوى على الوقوف، فقدتُ الجاذبية.
قال لي زوجي اهدئي، أخبرته أن الأرض ستنشق فينا يا جمال. كنت حافية القدمين وأقف على التراب مباشرةً شعرت بفوران الأرض الذي يكاد أن ينفجر كالبركان من تحتي، كأن الأرض تتنفس تريد أن تنفجر. رأيت أشجار الزيتون بعضها للأعلى والبعض الآخر للأسفل (شجرة طالعة شجرة نازلة). لم يكن اهتزاز الأرض بشكل مستقيم وإنما تترنح تارة للأعلى وتارةٌ للأسفل وكذلك الأبنية للأعلى وللأسفل. حقيقةً لا أستطيع وصف هذا المشهد.
فاطمة: كان شعور من الرهبة والخوف الكبير.
صباح: قلت بنفسي لا فائدة من عمل أي شيء فالدنيا انتهت. توقف الاهتزاز قليلاً..
فاطمة: كم كانت مدة الهزة، المدة التي شعرت بها أنتِ؟
صباح: شعرت وكأنها يوم بأكمله أو ما يقارب نصف يوم (ليلة كاملة).
فاطمة: لكنها دقيقة تقريبًا.
صباح: هي دقيقة أكثر أو أقل لا أدري. ما شعرت به كان أكثر بكثير، لم أتوقع بتاتًا أنه سينتهي.
فاطمة: ستدوم الحياة هكذا.
صباح: لن نرى الشمس بقية حياتنا، أنه يوم القيامة. شعرتُ أن أذناي ستنفجر لو أنها استمرت أكثر.
فاطمة: لماذا؟
صباح: بسبب صوت الأرض..
فاطمة: تقصدين أنك سمعتِ صوت؟
صباح: صوت صياح الأرض، الأمر الذي اقشعر بدني منه. جل جلال الله أنه شعور لا يوصف، خفت كثيرًا أحسست بأذاني ستنفجر وازداد خفقان قلبي لدرجة أنه كاد أن يتوقف نبضه، ارتخاء ورجفان بثائر جسدي. كنا في الشارع وزوجي يهدئني، وكل ما مررت به من شعور كان داخلي لم أستطع إخبار زوجي به. أريد أن أخبره أن يتمسك بي جيدًا كي لا تبلعنا الأرض.
فاطمة: كان زوجكِ بجواركِ.
صباح: نعم، يمسك بيدي وأنا أمسك بيدي الأخرى بشجرة الزيتون. يقول لي: “صلي على النبي، قولي يا رب، قولي الله أكبر، لا تخافي”
فاطمة: في هذه الأثناء أنتم خارج المنزل
صباح: نعم في أرض الزيتون ولا أعلم عما يحصل في الداخل نهائيًا، سوى أن كل ما في المنزل يسقط، لكن لم أرى شيئًا. انقطعت الكهرباء والظلام دامس. وكأننا في فيلم رعب أجنبي تمامًا كتلك التي كنا نشاهدها. لم نفكر أننا سنعيش مثل الأفلام ويحدث حوادث وكوارث.
فاطمة: مع أننا نعيش في الحرب منذ فترة لا بأس بها، وعشنا مثل هذا الشعور..
صباح: لكن الحرب شيء وهذا شيء مختلف..
فاطمة: أنه أصعب بكثير
صباح: بكثير، هذا جميع الأشخاص في الحرب الذين تعرضوا للضرب أو لا عاشوا نفس الشعور الآن، استحضرني الأموات أيضًا هل يا ترى شعور بالزلزال أيضًا؟ ماذا حدث لهم؟ لطالما أن الأرض تهتز برمتها.
ما جعلني أفكر بهذه الأمور أن الأرض تفور تريد أن تتنفس..
فاطمة: ضغط!
صباح: بقدر ما أن الأرض مضغوطة تريد فقط أن تأخذ نفس وتنفجر. عندما هدأت الدنيا ولم يعد هناك أصوات ووقف الاهتزاز بعض الشيء، مازالت الرجفة في جسدي إلى أن أتى أخي الذي كنا نقضي ليلتنا عنده. كنت أخبر زوجي أن يحضر لي حجابي، إذ لم أشعر بنفسي أنني بدون حجاب من عادتي أن أرتدي ملابس سميكة في الشتاء بسبب عملية أجريتها سابقًا ولأنني أبرد كثيرًا.
فاطمة: امم
صباح: لم يخطر ببالي أنني خرجت بدون حجاب، احمد الله أن منزلي وسط أشجار الزيتون ولا يوجد أحد ليراني. أخبرني زوجي أن ندخل للبيت لنرتدي ملابسنا، لربما يحدث شيء آخر وكي لا أخاف. أخبرته أنني لا أريد الدخول وأن يحضر لي هو حجابي فقط. في الداخل ظلام شديد وعشت مشاهد مرعبة (ما بقا استجري أفوت على الدار كتير خفت) لذا لم أعد أجرؤ على دخول المنزل. انتظري لأسكب القهوة.
فاطمة: يا الله، (تأخذ فنجانُ القهوة) يسلموا
صباح: الله يسلمك، بسم الله (ترشفُ رشفة من القهوة). تكملُ حديثها، قال لي زوجي أنه عليّ الدخول لأرتدي حجابي في المنزل. دخلت ارتديت ولما أشعر أنني في هذا الدنيا. في هذه الأثناء جاء أخي مُسرعًا ليطمئن عليّ (هو نفسه الذي كنا نقضي ليلتنا عنده) فقد سمع أصوات وهو يعلم أنني أعيش في منزل بعيدًا عن المنطقة السكنية. أتى على جناح السرعة من خوفه علينا.
فاطمة: رأيتِ لهفته عليكم.
صباح: نعم، عندما رأيته حمدتُ الله وأدركت أنهم جميعهم بخير ولم يلحق بهم أي ضرر. سألني ماذا حدث عندنا؟ فأجبته أنني لا أعلم ولم أرى شيئًا كنت في الشارع. دخل أخي المنزل مُضيئًا ضوء هاتفه شاهد مناظر ومشاهد الدمار في البيت، الجدران فوق بعضها من الدمار، والمطبخ وجميع الغرف تدمروا أيضًا. تخيلي أن المدفأة (الصوبا) وبوارِها سقطت في غير مكانها، انهارت بعض الجدران والبعض الآخر مائل.
فاطمة: كان زلزال قوي جدًا.
صباح: جدًا جدًا. الحمد لله لم يحدث عندي ضحايا مثل غيري من الناس رحمة الله عليهم.
فاطمة: آمين يا رب. تعيشين مع زوجكِ فقط بالمنزل، أليس كذلك؟
صباح: نعم لا يوجد لدي أطفال، أستأجرنا هذا المنزل ونعيش فيه أنا وزوجي فقط، المنزل مجاور للمنطقة السكنية (صوت دراجة نارية) بمكان بعيد.
فاطمة: أكملي.
صباح: بعدما اطمئن أخي عليّ أصابته صدمة من رؤية المشاهد المدمرة وكيف استطعنا الخروج من المنزل. خرجنا برحمة من الله، الحمد لله خرجنا أنا وزوجي. قال لي أخي يجب أن تذهبوا وتبقوا معنا في منزل عائلتي، لا تخافوا لا يوجد شيء هناك. تأكدتُ أنه بخير هو وعائلته وباقي أخواتي ونساءهم وأطفالهم وأبي وأمي والجميع. وأخبرني أن الجميع بخير.
فاطمة: في هذه الأثناء كان المطر غزير.
صباح: ليس فقط مطر، بل برد شديد وصقيع بالإضافة إلى رعد قوي حيث أن الأمطار كانت تهطل منذ ثلاثة أيام. كان الجو سيء جدًا (اتبعت جملتها صباح بقول: “الله يبعث الخير”) كانت الظروف صعبة جدًا. كنا على وشك الخروج للذهاب فوقعت الهزة الثانية تجمدتُ في مكاني لم أستطع الخروج ولا الدخول. تمنيتُ أن نموت دون أن أشعر بشيء أو اتعذب، لم أعد أعلم ماذا سأفعل، أطلب من رب العالمين أن يتلطف فينا. عندما ذهبت إلى هناك (تقصد منزل عائلتها) أكثر ما أحزنني هو رؤية العالم والجيران والناس..
فاطمة: الجميع في الشوارع
صباح: كل العالم وكأنه يوم المحشر (عبرت صباح عن هذا المشهد بقول: “مالك أجر تدوسي من كتر الخلايق. تُستخدم هذه العبارة للتعبير مجازيًا بالعامية عن عدد الناس الكبير أو الزحمة) البعض خرج مُرتديًا سروال قصير (شورت) والآخر لم ترتدي زوجته حجابها، لكن لا أحد ينظر إلى وجه أحد، أو حتى أن يفكر بمن يقف بجانبه، خرجوا الناس يبكون ويبحثون عمن وقعت عليه المباني، كأنها أهوال يوم القيامة، لا تسمعين سوى الصياح والتكبيرات ومطر غزير.
فاطمة: في هذا الوقت بعد الزلزال حصل هزة قوية.
صباح: عندما حصلت هذه الهزة كنت بجوار منزل عائلتي.
فاطمة: وصلتِ إلى منزل عائلتك عندما حصلت الهزة الثانية؟
صباح: نعم عندها وصلت منزل أهلي، كنت جالسة معهم لكن لم أستطع أن أتحدث إليهم، كنتُ أحدق بالجميع وأبكي وأردد الله أكبر.
فاطمة: هل عدد عائلتك كبير؟
صباح: نعم، عائلتي وعوائل أخواتي مع أولادهم. عددهم جميعًا ثلاثة عشر فردًا بالإضافة إلى أمي وأبي بارك الله بحياتهم.
فاطمة: لم يصبهم أذى؟
صباح: لا الحمد لله لم يصبهم أي أذى فقط أضرار مادية خفيفة، ليست بمقدار الضرر الذي وقع عندي أو عند غيري من الناس. وأختي المتزوجة تسكن على مسافة بعيدة نريد الاطمئنان عليها. عندما بدأنا نستعيد وعينا لنتكلم ونطمئن على بعضنا فقدت والدتي وعيها عندما رأت فوران الأرض.
فاطمة: شعرت بالدوار؟
صباح: فقدت وعيها عندما خرجت لتبحث عن أبناءها وتجمعهم بجانبها.
فاطمة: بما أن عددهم كبير (ما شاء الله).
صباح: هم ظنوا أن صاروخ ضربهم لذا ظلوا في غرفة المعيشة (الصالون) لكن عندما اشتدَ الصوت أكثر والأرض تفور فوران فتحوا الباب وخرجوا للشارع، في هذه الأثناء كانت أمي تريد أن تناديهم (قلب الأم) لكن لم تعد قادرة على الكلام. ولم تدرك أن من تنادي عليهم هم ذاتهم من يمسكون بها. لأنها عندما خرجت ورأيت الزيتون والعالم والخلق وكيف كانت الأرض تفور للأعلى والأسفل فقدت وعيها. تلك اللحظة كنت قادمة إليهم.
فاطمة: عند ذهابكِ إليهم؟
صباح: نعم عند ذهابي إليهم ولم يخطر في بالنا أن تحصل هزة ثانية. كانوا الناس يروا بعضهم بواسطة أضواء السيارات لا يوجد ضوء آخر.
فاطمة: ولأن منزلك يقع في الزيتون وبعيد عن المدينة، يريد الناس أن يخرجوا إلى أراضيٍ فارغة لا يوجد فيها مباني. على ما أعتقد أن التجمع صار عند منزلك وحول المنطقة التي تسكُنيها.
صباح: في بداية الزلزال كان الجو ماطر ولم يكترث الناس لهذا الأمر بل فروا بأرواحهم إلى هذه الأراضي مشيًا على الأقدام أو بالسيارات، فبعض السيارات بطئت حركتها. كنت أراقب العالم من مكاني بعد أن استوعبنا ما حدث قلت بنفسي كيف استطاعوا الدخول لهذه الأراضي ومعهم نساء كبار في السن وعجائز ومشلولين، ومن كان باستطاعته حمل أمه أو ابنه، ومن يستطيع الركض جميعهم غطسوا بالطين ودخلوا الأراضي. كنت سابقًا أخاف أن أسهر لوحدي في المطر كانت الأجواء أشبه وكأنك تعيشين في جبال بمفردك بعيدة عن الناس. لكن أثناء الزلزال جاء الجميع لجانبي وكأنهم سكنوا معي.
فاطمة: عندما ذهبتِ لمنزل عائلتكِ وعشتم الهزة ما بعد الزلزال ماذا حصل بعدها؟
صباح: كنت عند أهلي وعشنا الهزة ذاتها..
فاطمة: بقيتِ عند أهلك هناك؟
صباح: بقيتُ عند أهلي عندما تحدث الهزات. كنا أنا وزوجي وأخوتي جميعهم والمتزوجين منهم. تعلمين مشاعر الأب والأم لرؤية جميع أبناءهم أمام أعينهم، أخبروهم أن يأتوا جميعهم مع أولادهم، كانوا أطفالهم يبكون، عندما تحدث الهزة انظر لأخوتي وهم يحاولون طمأنة أطفالهم بقول: “لا تخف يا بُني أنها هزة خفيفة وستنتهي.” (لا تخافوا بابا ما في شي).
فاطمة: كان شعور الأطفال خوف أيضًا!
صباح: جدًا جدًا ينظرون إلى الأرض كيف تخفق بهم والجدران تهتز وأصوات الهدم وصياح الناس في الخارج. أصوات ولاويل العالم وبكاء الأطفال كانت كثيرة. وسيارات ذاهبة وآتية فمن يسكن داخل المدينة يريد الهروب إلى أماكن فارغة (فضا كما عبرت صباح) ليحمي نفسه من سقوط أي شيء يؤذيه. فمن كان لديه أقرباء وسط المدينة يذهب ويأتي بهم إلى الأراضي الفارغة (كروم الزيتون). لا نرى سوى سيارات ذاهبة وراجعة وفلانٌ ينادي لفلان وصياح وتكبيرات العالم. كأنه يوم القيامة لا مجال، ازدحمت الدنيا برمتها من شوارع وأراضي زيتون وكل شيء. عندما كنت عند أهلي حدثت الهزة الثانية. فتح والدي باب البيت وادخل الناس في الشارع للداخل.
فاطمة: هل منزل أهلك في مبنى؟
صباح: لا منزل أهلي أرضي (فرنجي؛ منزل غير مكون من طوابق ومحاط بالحدائق) إخوتي المتزوجين بنوا بيوت بجوار منزل أهلي.
فاطمة: أي أنه آمن أكثر من غيره؟
صباح: لا أعلم بالضبط ولكن لأنه منزل أهلي فهو آمن. بمجرد أن تشعري أنك عند أهلك هذا بحد ذاته أمان مهما كان شكل البيت. عندما أدركتُ الأزمة التي حصلت أخبرتُ زوجي أنني أرغب في الذهاب لمنزل أهلي لا أريد البقاء هنا (أي في منزلها).
فاطمة: أكثر من افتقدتهم هم أهلك.
صباح: صحيح، قلتُ لزوجي أنا ذاهبة عند منزل أهلي إذا كنت تريد البقاء هنا. فقال لي لا عليكِ اذهبي، اوصلني إلى منزل أهلي وبالمقابل هو أيضًا يفكر في أهله وذهب ليطمئن عليهم. كانت عائلته يسكنون في منزل ذو أرض دار كبيرة، ظلوا في أرض الدار هذه حتى انتهى الزلزال القوي وهدأت الأرض. بقيتُ عند أهلي وذهب هو ليطمئن على أهله ما إذا أصابهم أذى أو أن والدته ليست بخير. عندما هدأت الأوضاع فتح والدي الباب وأرسل بمن يحضر أختي المتزوجة هي وأولادها الخمسة، وإخوتي المتزوجين كل واحد منهم لديه ثلاثة أو أربعة أطفال.
فاطمة: اجتمعتم جميعًا في نفس المنزل؟
صباح: تجمعنا جميعنا وجاءت أختي وعائلة زوجها، قال والدي :”معلش حرام العالم ساكنة ببينايات نحن هون بيتنا فاضي وحولينا فضا أحسن.” كانت تحدث هزات بين الحين والآخر.
فاطمة: تعتقدون أنهم الزلزال ذاته!
صباح: كنت أشعر أن نفس الزلزال القوي سيضرب، لا إراديًا كنا ندفع ببعضنا نحو الشارع.
فاطمة: عندما هدأتهم بعد ساعة أو ساعتين وعرفتم أن ما حدث هو زلزال..
صباح: كنت أعلم منذ البداية أنه زلزال قوي، عادةً…
فاطمة: كنتِ مدركة أنه زلزال؟
صباح: بلغت من العمر 37 عامًا، عشتُ خلاله هزتان أو ثلاث قديمات، منذ أن بدأت أوعى على الحياة وكان عمري ما يقارب 7 أو 8 سنوات إلى وقتنا هذا وحدوث الزلزال القوي. أتذكر أثناء المباريات عندما فاز اللاعب ميسي وحصلوا على الكأس في الإمارات أو قطر لا أدري أين بالضبط وقعت هزة وشعرنا بها كان ذلك قبل الزلزال بفترة قصيرة. وفي 2014 ايضًا وقعت هزة أخرى وشعرت بها لكن كان خفيفة وعابرة، فقط شعرنا بصوت الجدران والأراضي.
فاطمة: أي أنكِ مُدركة أنه زلزال
صباح: نعم فقد شعرتُ باهتزاز الأرض وكأنها تخبرني سبحان الله بأن رب العالمين أرسل بمكلاكٍ أو شيء ما بداخلي ليخبرني بأن ما يحدث هو زلزالٌ قوي. الأرض تفور تساءلتُ ما إذا كنت قد سامحتُ الجميع وطلبت من الله أن يقبض روحي نقية بدون أي ذنب والجميع مسامحني ومسامحتهم. شعرتُ أن الوقت قد فات لطلب المسامحة من أحد تكلمنا عنه أو تخاصمنا معه، كان شعور صعب وبشع جدًا. رغم ذلك حمدتُ الله ودعُوته ليكن في عون الأشخاص الذين رأيناهم أمامنا ومن ضمنهم أقرباء بنات عمي اللواتي فقدنّ عمهم وسلفتهم وأطفالهم الصغار الذين ظلوا تحت الأنقاض لمدة 3 أيام في مدينة جنديرس. عندما صحونا من كارثة الزلزال تذكرنا أن ما حدث في مدينة جنديرس أقوى بكثير مما حدث في مدينة اعزاز، تذكرت أن بنات عمي يعيشنّ هناك، هاتفتهن لتخبرني ابنة عمي أنها كانت تجلس في منزلهم المجاور للبناء الذي بنوه سابقًا. هذا البناء تدمر فوق منزلهم، ووقعت الخزانة فوق ابنة عمي قبل أن تحدث الهزة القوية، تم سحبها من تحتها بصعوبة، عندما خرجت للخارج هبط البناء فوق المنزل وبقي عمها وبنت حماها (أخت زوجها) وطفلان 3 أيام حتى تمكنوا من إخراجهم من تحت الأنقاض، إنه منظر جدًا جدًا…
فاطمة: عندما أخرجوهم هل كانوا على قيد الحياة؟
صباح: أخرجوهم متوفون وبات لونهم أزرق فقد ماتوا خنقًا لأنهم بقوا يومان تحت الدمار، واخبرهم الدفاع المدني لو تم إخراجهم قبل هذه المدة لظلوا على قيد الحياة.
فاطمة: رحمهم الله.
صباح: آمين، احدثُ نفسي رغم أننا عشنا هذه الأهوال لكن الحمد لله، فبعض الناس رأوا أهلهم واخرجوا جثثهم وبقاياهم..
فاطمة: تحمدين الله دائمًا لأننا في نعمة ليس لدينا سوى خسائر مادية.
صباح: نعم الحمد لله رب العالمين وأهلي جميعهم بخير وكذلك أهل زوجي بخير نحمد الله ورحم الله جميع الأموات.
فاطمة: آمين
صباح: أما ما بعد الزلزال، عندما صار الصبح واستفقنا لأمرنا قليل كانت تقع هزات بين الحين والآخر كنا نهرب للخارج ويغمرنا المطر والبرد، عندما صحوت لأمري وجئت إلى دار أهلي وحصل ما حصل لي، طمأنا الأطفال بالرغم من خوفي عندما رأيت بنت أخي التي أحبها واعتبرها كابنتي، خائفة شددتُ من عزمي أمامها لأنني قدوتها يجب أن أكون قوية بما يكفي كي لا تخاف. جلستُ وقلبي مليء بالخوف لكن تمالكتُ نفسي لتبقى ابنة اخي قوية.
فاطمة: حتى الآباء والأمهات سبحان الله يكونوا خائفين جدًا…
صباح: يكونوا خائفين كثيرًا وبقمة ضعفهم لكن لا يظهروا ذلك لأبنائهم ليبقوا أقوياء.
فاطمة: صحيح
صباح: تشعرين بأنكِ قدوتهم فكيف لكِ أن تضعفي أمامهم. لذلك حين ذهبت لمنزل أهلي استفقدتُ ابنة أخي وبحثت عنها، عندما رأيتها تبكي وتقول: ” يا عمتي هزت بي الأرض”..
فاطمة: هذه الفتاة تحبيها أكثر من غيرها؟
صباح: أحبها كثيرًا واعتبرها ابنتي، فهي تعيش أحيانًا عندي وباقي الأحيان عند أهلها. لذا عندما رأيتها خائفة شددتُ عزمي أمامها، واخبرتها: “لا تخافي يا صغيرتي، فالأرض تهتز قليلاً وسينتهي كل شيء بعد قليل.”
فاطمة: بدأتِ تفسري لها كي لا تخاف!
صباح: نعم، اشرح لها ما يحدث كانت تسألني: “لماذا يبكي الجميع؟ لماذا تهطل الأمطار؟ أشعر بالبرد الشديد يا عمتي.” لأننا بالخارج وكانت تهطل الأمطار وبرد لدرجة الصقيع كان وقت المربعانية في الشهر الثاني بتاريخ 6-2 كانت المربعانية على وشك الانتهاء. عندما طلع الصباح رأيت بنفسي غارقة بالطين ولم أكن أشعر بقدمي من شدة البرد، لكن حينما شعرتُ بألم كان جسدي قد امتص الصدمة. غسلتُ قدماي وجلسنا قليلاً لنطمئن على بعضنا البعض، ووالدي أطال الله بعمره طوال فترة الحرب وما عشناه كان دائمًا يقوي من عزائمنا لا يخاف من شيء سوى رب العالمين.
فاطمة: نعم الفرد يقوى بوجود أهله.
صباح: يعطينا قوة فهو سندنا..
فاطمة: عندما تنظرين إليه ترين القوة ولا تخافي؟
صباح: نعم، لأنه يقول هذا أمر الله فلم الخوف؟ قولوا يا رب ولا تخافوا من شيء. الخوف والرعشة لا فائدة منهما فهذا أمرٌ من عند الله، حدث الزلزال وانتهى اهدؤوا. في حقيقة الأمر كان يصرخ في وجهنا كي لا نخاف ونهدئ ويُسكت الجميع فعددنا كبير- جيش كامل- مجتمع حوله. على عكسي أبي، أمي شديدة الخوف وكونها أم قلبها على أولادها لتجمعهم بقربها وتطمئن على الجميع. بعدما استفقنا لأمرنا تحدثنا عما حدث والدمار في منزلي واساني والدي بكلماته وأن العوض عند رب العالمين والأهم أننا بخير أنا وزوجي. ذهب والدي ليطمئن على إخوته فأعمامي عددهم 9.
فاطمة: ما شاء الله
صباح: تطمئن عن أحوالهم جميعهم وخاصة عمي الذي سقط فوقهم سقف المبنى، منذ لحظة وقوع الزلزال أرسل والدي واحد من إخوتي ليطمئن علي والآخر ليطمئن على عمي، أما أخي الثالث فأرسله ليحضر أختي. كان يحاول الاطمئنان على الجميع أثناء الزلزال. صار الصباح منزل أهلي قريب من منزلي فهم أيضًا يسكنون في أرض زيتون -برية- عندما يأتي أحد من أقربائنا أو الجيران أو أي شخص غريب من الذين ركنوا سيارتهم بالقرب منا، كانوا جميعهم يقصدون منزل أهلي من أجل الماء أو لقضاء حوائجهم. سبحان الله مع العسر يوجد يسر.
فاطمة: طبعًا.
صباح: بالرغم من خوف الناس لكن عندما دخولهم إلى منزلنا ومقابلتنا يشعرون بأمان أكثر، ويخبرهم ولادي أن يهدؤوا وأن ما حدث ما هو إلا شدة وانتهت، فيشدون عزمهم. كان يخبرنا أن نلبي احتياجاتهم ونستقبلهم بالمنزل ليناموا ويرتاحوا، كان بينهم مُسنين رجال ونساء، كنا ندعي الله بالرحمة كلما رأينا الناس بالشوارع. بعدها جلستُ لأتذكر ما حدث وكيف انهارت جدران منزلي، استوعبت كل شيء بدأت أحدثهم عن التجربة التي عشتها والوقت الذي شعرتُ به أنني سأموت ونطقتُ الشهادتين. أما أختي فقالت أنها كانت مدركة لأمرها وأننا لن نعيش في الدنيا فهذا يوم القيامة لا محال، كانت تترقب ظهور الشمس من جهة الغرب فهذه أهوال يوم القيامة.
فاطمة: ألم تكن خائفة؟
صباح: لا لم تكن خائفة.
فاطمة: ما السبب برأيك؟
صباح: لأنها على يقين بوجود يوم القيامة اليوم الذي يحاسب به الجميع، لذا كانت تنتظر طلوع الشمس من الغرب. لكن بالطبع كان يتملكها خوف بداخلها فكل إنسان سيشعر بهذا.
فاطمة: بالطبع
صباح: لكنها أقوى من غيرها ومن أخواتي الأخريات.
فاطمة: هل كنتم تنزعجون منها إذا تكلمت هكذا؟
صباح: لا، كنت أيضًا على يقين مثلها، لكن لأني رأيت الجدران تنهار وتتمايل والأرض تفور الأمر الذي جعلني أخاف أكثر، فلم تسقط الجدران عند أهلي ولم يروا شكل الأرض وهي تفور بحكم أن منزلهم على بعد من البرية، ليسوا مثلي ما مررتُ به أخافني أكثر، إن كان موتي فرحمة الله عليّ، بالإضافة عندما صار صوت الأرض عالي شعرت بأُذُناي ستنفجر..
فاطمة: ضغط!
صباح: صار ضغط كبير، كأن الأرض انضغطت ستفور لتأخذ نفس. هذا الضغط هو الذي أخافني وأرهقني جسديًا ونفسيًا. وضعت في بالي مؤمنة أن هذا هو يوم القيامة يجب أن أُكثر من ذكر الله وقول يا لطيف وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمد رسول الله فقد انتهت الدنيا. لم يخطر ببالي مثلما خطر لأختي أن الشمس ستشرق من الغرب، بل فقط أنه يوم القيامة ولن يطلع الضوء (تقصد الشمس) مرة ثانية ستظل الدنيا عتمة كما أهوال يوم القيامة. عندما صحونا كنا نتكلم مع بعضنا ونطمئن على بعضنا البعض عند أهلي كانت تحدث هزة صغيرة بين الحين والآخر.
فاطمة: الجميع يخرج خارج المنزل.
صباح: تمامًا الجميع يخرج ما عدا والدي، كان يقول لا فرق بين الداخل والخارج في كنا سنموت، إذن سنموت على أية حال. فالموت واحد ما إن كان تحت السقف أو خارجًا. صارت الساعة ما بين السادسة والسابعة كانوا يأتون الأطفال ارة نذهب للخارج وتارة للداخل، كنا نتبلل بالمطر ونتعب كثيرًا. سبحان الله كانت تقع هزة بين الحين والآخر. عندما طلع الضوء (أي صار الصباح) بدأت الناس تأتي إلى منزل أهلي عائلة تلو الأخرى باعتباره بعيدًا عن المباني بعض الشيء، أصبح عدد الأشخاص المتواجدون في منزل أهلي الصغير يتراوح ما بين 40 إلى 50 شخص من بينهم أخواتي ونساءهم وأشخاص آخرين.
فاطمة: امم
صباح: هنا أخبرتهم بأنني أريد الذهاب والاطمئنان على منزلي لطالما صار الصباح. أريد التأكد من الأشياء التي سقطت فوق بعضها البعض ليلاً. كنت متأكدة عند وصولي للمنزل أن ثمة أشياء وجدران تدمروا.
بطبيعتي أحب شراء الأشياء الثمينة والجيدة للمنزل.
فاطمة: تحبين أغراض المنزل.
صباح: نعم أحب أغراض المنزل والكنكنة، بالإضافة إلى أنني أحب النباتات والزرع حيث لدي نباتات تملئ المنزل. رأيت أحد الجدران سقط فوق النباتات فتسكروا، وصُدمتُ عندما دخلت إلى المطبخ ورأيته مدمر.
فاطمة: كيف كان شعورك عندما رأيتِ الجدار سقط فوق نباتاتك؟
صباح: حزنت كثيرًا وبكيت عليهم، لكن فكرتُ ماذا لو سقط هذا الجدار عليّ؟ سأموت بدلاً من الزرع. بكيت ودعوت الله أن يعوضني بالأفضل. عندما رأيت المطبخ مدمر وغرفة النوم كذلك مدمرة حزنت كثيرًا على نفسي وعلى حال الأغراض وأن المنزل لم يعد قابل للسكن أبدًا. عند حدوث هزة كانت الجدران المتصدعة تشقق أكثر ويسقط البورسلان واللبنات. أصابتني الصدمة عندما دخلت المنزل لم أكن أتوقع كل ذلك الخراب، بكيت، ترددت بقول لماذا حدث ذلك يا رب واكتفيت بقول الحمد لله يا رب تعوضني اللهم أجرني في مصيبتي واخلفني خيراً منها.
كانت تجربة أشبه بالمسلسل. عندما كنا نشاهد الأفلام أو المسلسلات نقول أنهم يبالغون كثيرًا في الأحداث والمشاعر. لكن بالفعل عندما عشت هذه اللحظة ودخلت إلى المطبخ شعرتُ بحزن شديد على أغراضي وأشياء المطبخ لما يبقى منها شيء.
فاطمة: يبدو أنكِ تحبين أغراض المطبخ كثيرًا؟
صباح: بالفعل، كانوا أهلي يخبرونني أنني أحب أغراض المطبخ كثيرًا، أحب أن أجلب أغراض للمنزل. لذلك دخلتُ إلى المطبخ قبل أي مكان لأتفقده، لم يبقى زجاج أو رفوف والجدران تدمرت، انتابتني الحسرة وبكيتُ من هول المنظر حزنت من كل قلبي.
فاطمة: الشيء الذي قضيتِ سنين برعايته والاهتمام به وفجأة خلال دقيقة ونصف، بساعة انتهى..
صباح: خلال ثانية وليس ساعة، بثواني ذهب تعب 15 سنة. مضى على زواجي 15 سنة وأعيش في منزل إيجار ليس ملكًا لي. أحب أغراض المطبخ والبيت أحب النباتات، وأحب أن أخلق جو خاص بي. لن الظروف المادية صعبة وظروف الشتاء قاسية، شغل زوجي على قده مستأجرين منزل على قدنا أجاره مناسب. كنت أزعل كثيرًا وأقول أن الله سيعوضني وأعيش في منزل أفضل، كنت أتحمل طين الشتاء والأوساخ وما إلى ذلك، واواسي نفسي لأن المرأة هي سند زوجها في الشدائد والأوقات العصيبة. عندما وقع الزلزال وتدمروا أغراض المطبخ وكل شيء (عبرت صباح بقول: “راح كلشي”)، لم أكن أرغب بأن اتفوه بكلمات تعاتب رب العالمين لماذا حدث معي كل ذلك دونً عن غيري؟ أتذكر أن هناك أشخاص ماتوا تحت المباني هم وبيوتهم ومالهم. لكن بنفس الوقت يعز بنفسي أنني فقيرة ووضعي صعب كنت أفرح ما إذا اشتريت غرض، لذا عندما أخبرت زوجي أنني ذاهبة لأتفقد بيتي أول مكان دخلته هو المطبخ، كان من الصعب فتح الباب الأمر بحاجة لحمل الباب من مكانه من أجل الدخول للمطبخ لأن بلاط الأرض خرج من مكانه. رغم أن المنزل يقع بين الأشجار والوحل والطين إلا أنني وضعت سجادة في المطبخ، بكيت كثيرًا لا أعلم ما أصابني أو ما الشعور الذي راودني حسرة أم زعل! أول كلمة نطقت بها “الحمد لله رب العالمين” انظر إلى الأغراض على الأرض وأقول الحمد لله انظر إلى الغسالة التي سقط فوقها البلاط وأقول الحمد لله والبراد كذلك وقع فوقها الجدران والبلاط أقول الحمد لله رب العالمين. عرفت أن منزلي تدمر صح أنه لم يمت عندي أشخاص ولكن منزلي تدمر مصيبة. قررت أن أُداوي نفسي بنفسي احضرت كيس وبدأت بملئه كلما وضعت قطعة زجاج داخله كنت أبكي عليها. شعور صعب جدًا، كان زوج أختي يساعدني ويواسيني بقول: “خصل طولي بالك معلش، بكرا الله بعوضكن.”
فاطمة: كنت تجمعين ما تبقى من الأغراض؟
صباح: كنت أجمع الأغراض المتكسرة كي أتأكد من وجود أغراض سليمة بينهم، جميع ما تبقى من الأغراض هو حديد كالشوكة والملعقة.
فاطمة: لم يتبقى زجاج؟
صباح: لا حتى الأدوات الكهربائية لم يبقى منها شيء. مثلاً سقط فوق الغسالة البلاط، حوض الجلي والمرمر والجدران جميعها تدمرت. سبحان الله باللحظة يحدث أن تتغير حياة الشخص إما للأسوأ أو للأفضل، والحمد لله رب العالمين فالمؤمن مُصاب. هذا اختبار من الله لي.
فاطمة: الحمد لله، بدأتي بجمع أغراض بيتك ما تبقى وما تدمر
ترتشف صباح رشفة قهوة وتتابع
صباح: امم، عندما بدأتُ بجمع الأغراض جاء زوج أخت كان حزين بشأني
فاطمة: جاؤوا لمساعدتك؟
صباح: نعم، لأن زوجي لم يظهر لي أنه حزين كبريائه لم يسمح له بذلك. يخبرني أننا سنشتري غيرهم لا بأس. كان الأمر خارج عن سيطرتي كنت أبكي طوال الوقت وأردد الحمد لله. كنت أجمع الأغراض وأشعر كما لو أنني أجمع جروحي معهم. لم تكن القيمة بأنهم زجاج بل كانوا عبارة عن حياتي ودنيتي وعيشتي.
فاطمة: صحيح
صباح: أي أن حياتي مرتبطة بأغراض منزلي ويستحضرني أن هناك أشخاص ماتوا، لكن سبحان الله كل شخص يحمل قيمة ومكانة لأغراضه وأشياءه. قالوا لي ألا أحزن وأن الله سيعوضنا، لكن هذا مجرد كلام يقال. لكن أنا من شعرت بذلك وأنا من خسرت، لا يوجد عندي أطفال ومنزلي إيجار وكان زوجي لا يعمل ورغم كل ذلك عشت الزلزال وتلك الظروف وتبللت بالأمطار، ناجيتُ الله يا رب أنا صابرة على كل ما أعيشه، أكرمنا بكرمك فالمؤمن مُصاب. لكن أزعل على نفسي فأنا أيضًا أستحق أن أعيش حياة أفضل.
فاطمة: صح
صباح: أثناء جمع الأغراض كنت أتذكر كل غرض كيف اشتريته وفرحتُ به. كان زوج أختي يطبطب عليّ قائلاً لا بأس سيعوضكم الله. شعرت أنني لم أعد أملك أي شيء بتاتً، لم يتبقى لي سوى رحمة الله. لحظة جمع الأغراض حدثت هزة قوية لم نعد نستطيع البقاء أطول كانت تتساقط علينا قطع من الجدران.
فاطمة: جميع الجدران متشققة ومتصدعة.
صباح: جميعها متشققة ومتدمرة وكأنها خرابة (بمعنى مكان مهجور)، خرجنا من المنزل كانت الساعة الثامنة أو التاسعة صباحًا.. الثامنة والنصف.. سبحان الله تهتز الأرض وكأنها تأبى الوقوف.
فاطمة: حدث هزات كثيرة بعد الزلزال.
صباح: كثيرًا وبعضهم كانوا شديدات القوة لدرجة أن الجدران لم تعد تصدر صوتًا فقط؛ وتشقق أكثر لنسمع صوت التصدع كما كنا نسمعه بالأفلام ونعتبره مبالغة. منظر الجدران وهي تتصدع أثر بي كثيرًا وتصيبني القشعريرة مما يحدث. (صوت طرق الباب في الخلفية) خرجت إلى أرض البيت وسلمت أمري لله إذا كانت الجدران ستسقط فوقي فلتسقط لن أخرج للشارع. تتوقف الهزة..
فاطمة: أحدهم يطرق الباب، بإمكانك أن تفتحي.
صباح: ثواني… اعتذرت اندق الباب
فاطمة: لا عليكِ
صباح: كنت أُحدثك، عندما كنت أجمع أغراضي كان شعور صعب جدًا حزنت كثيرًا، يناظرني الجميع ويقولون أنهم مجرد أغراض للبيت عليكِ أن تري الأسوأ منك. على عيني ورأسي لكنكم لم تعيشوا تجربتي ولا يمكنكم لومي بمشاعري وحزني.
فاطمة: لطالما أنك قضيتِ سنين في جمعهم.
صباح: نعم كنت أجمعهم وبحكم أن عمل زوجي بسيط بالكاد أن يُحصل بعض النقود عندما اجلب أي غرض افرح به جدًا هكذا طبيعتي وشعوري. لذا، عندما يقولون لي أنهم مجرد أغراض للبيت أو مجرد غرفة نوم. فأنتم لم تعيشوا تجربتي ولم يصيبكم ما أصابني. لأنكم عند شراء غرض ما لم تشعروا مثلما أشعر بشرائي لشيء ما.
فاطمة: صح، الغرض له قيمة بالنسبة لكِ.
صباح: له قيمة بالنسبة لي ليس من باب البخل، كانوا أحيانًا ينادونني بـ “أبو نجيب” (أبو نجيب هو شخصية مسلسل لعب دور البخيل، وأهل المنطقة يستخدمون لقب أبو نجيب للإشارة إلى الشخص البخيل) فأنا كنت أتعب وأشقى لشراء الغرض وأفكر كثيرًا به قبل شراءه. فلا حول ولا قوة إلا بالله لم يبقى لدي شيء نهائيًا حزنت جدًا وأصابني الكرب والهم. لا منزل ملك ولا ولد ولا حتى أغراض للبيت حزنت جدًا. وزعلت على كسرة زوجي كان له تأثيره أيضًا.
عشتُ تجربة بعد الزلزال لن أنسى ما حييت، أصبح منزلي غير قابل للسكن لذا قررنا البقاء عند دار أخي _أكرمه الله_ بعدما أخبرني أنني أستطيع البقاء عنده هذه الفترة، لكن عندما نظرت في الأمر وجدت أن ذلك قد يطول كثير والهزات مستمرة كل ساعة وكل نصف ساعة تحدث هزة، وبدأت الناس تتناقل الأخبار الكاذبة ستحدث هزة أقوى أو ستقع هزة في اليوم الفلاني أو الساعة المحددة، عشنا على أعصابنا لم يهدؤوا من روع الناس بل حركوا الخوف في قلوب الناس أكثر.
فاطمة: ينقلون الأخبار الكاذبة
صباح: نعم تناقلوا العديد من الأخبار الكاذبة لكن رب العالمين لم يعطي سره لأحد. بعدما غدا منزل وغير قابل للسكن وصرت أنام وأمكث في دار أخي شعرت أن هذا الأمر لن ينتهي بسرعة وخاص أن الأمطار تهطل بغزارة، أي أنه ليست الظروف فقط ضدنا والأحوال الجوية كذلك. لو أننا في فصل الشتاء لجلست في أرض الدار أو تحت الشجرة مع زوجي دون أي مشكلة، لكن مطر وبرد وصقيع لا يوجد مكان نذهب إليه في الشتاء الظروف المعيشية صعبة. بدأت المنظمات بتقديم المساعدات للناس، أخبرونا أنهم سيكشفون على منزلنا، من الصعب العيش به ولا أريد البقاء عند أحد وأتثاقل على أحد.
فاطمة: معكِ حق
صباح: بقيت 3 أيام عندهم لكن كنت أتآكل بداخلي لا أريد أن أشكل عبء على أحد هذا وليس لدي أطفال فقط أنا وزوجي. كشفت المنظمة على المنزل وتبين أنه لا يمكن العيش به مطلقًا ويمنع الدخول إليه. تحسبنا رب العالمين وأخبرونا أن نعيش بخيمة كما يفعل الجميع، نصبنا الخيمة.
فاطمة: أين وضعتها؟
صباح: وضعتها مقابل المنزل أنها ذات العيشة وسط الطين والعجقة نفسها.
فاطمة: مقابل منزلك
صباح: نعم كي لا أترك المنزل ولا أخسر ما تبقى من الأغراض فيه. فر العديد من الناس إلى جانب منزلي لأنها أرض زيتون خشية هبوط المباني بهم. عشت أيام صعبة جدًا أسأل الله أن لا يكتبها لأحد.
فاطمة: آمين
صباح: صعبة جدًا. مرت 15 سنة ولم أعش مثل هذه الأيام قط.
فاطمة: كانت صعبة!
صباح: جدًا صعبة نفسيًا ومعنويًا وجسديًا وماديًا وحسيًا وإنسانيًا بسبب الناس من حولنا صعبة جدًا. صعب أن تكوني… كيف يمكن أن أوصفها..
فاطمة: كما تحبين
صباح: يصعب عليكِ رغم ظروفكِ ووضعكِ الاجتماعي المتوسط وما دون المتوسط رغم ذلك..
فاطمة: كنتم مرتاحين نوعًا ما.
صباح: ليست كذلك، أنا وزوجي كنا مضيافين ونحب الضيوف كثيرًا والحمد لله رب العالمين لم ننقطع يومًا. قبل الزلزال كان وضعنا المادي سيء جدًا عندما وقع الزلزال وتوقف جميع الأعمال أصبح بأمس الحاجة لكسرة الخبز، قلت لزوجي الحمد لله ليس لدينا أطفال بمثل هذا الظرف، كيف لكِ أن تري طفلك في هذا الوضع وأنتِ غير قادرة على تقديم أي شيء له غير ذلك لأصابتني الجلطة وأنا لا أقدر على تأمين قوت أطفالي اليومي على أقل تقدير.
فاطمة: وضعك المادي كان صعب خلال فترة الزلزال.
صباح: خلال فترة الزلزال ومن قبل لكن لم يكن أحد يعلم بذلك. من الظاهر يظن الجميع أن ظروفنا جيدة ولا نمر بأي ظروف صعبة. وضعت مونة من قبل لتسد حاجتنا لكن عندما صار الزلزال وخسرت أغراض المطبخ لما أكن قادرة على تقديم أي شيء وخاصة أن الناس وبعض الأقرباء وأهلي جاؤوا لجواري، وكان من الصعب علي طلب أي شيء وأرى زوجي مكسور ومقهور رغم أنه لم يظهر ذلك. مررنا بأيام كان زوجي يطلب الخبز من عند أهله.
فاطمة: هذا ما بعد الزلزال؟
صباح: قبل الزلزال وبعده زاد الأمر أكثر.
فاطمة: بعد الزلزال سكنتِ في خيمة أمام البيت.
صباح: زاد الأمر بعد الزلزال لأننا سكنا بخيمة ولم يعد لدي شيء سوى رحمة رب العالمين. ومن الصعب أن نطلب فلم يقف معنا أحد نهائيًا خلال أزمتنا. مع العلم أن جميع من حول زوجي وحولي لديهم المقدرة على مساعدتنا ودعمنا لنبدأ من جديد، لكنهم صمٌ بكمٌ عميٌ. عانيت من هذه التجربة كثيرًا، سكنت شهر بالخيمة.
فاطمة: بعد الزلزال؟
صباح: إلى الآن ما زلت أعيش في خيمة، ولحد الآن في منزلي المدمر، لم أغادره من أجل النباتات وكم أغراض أملكه، وضعت الخيمة مقابله رغم أنه أجار ولم أغادره. سكنت بالخيمة شهر ونصف تقريبًا الله يعلم كيف عشت خلال هالفترة.
فاطمة: شهر ونصف!
صباح: نعم شهر ونصف صعبة جدًا ولا يمكن وصفها، لا يكفي يوم ولا شهر لوصفها يمكن كتابتها في كتاب.
فاطمة: عشت لوحدك في الخيمة؟
صباح: نعم عشت لوحدي وعشت مع عالم آخرين. كان من المفترض أن أبقى بها لوحدي لكن أشخاص من أقرباءنا لا أريد أن أفصح عن أسماءهم عاشوا معي بنفس الخيمة. عشت معهم تجربة بشعة وسيئة جدًا رغم ما أعانيه جاؤوا هم وزادوها علي.
فاطمة: هذا يعني أنهم ظلوا عندك فترة طويلة؟
صباح: ظلوا عندي شهرين، رغم تعبي وحزني وبقائي في الشارع ضمن الخيم ورغم كل شيء، ظلوا معي زادوا مشقتي. تخيل أنك اشتهيت كوبًا من الشاي أو فنجانًا من القهوة ولا تستطيعين شرائه وفي ذات الوقت لست قادرة على طلبه. بالنسبة لي أنا وزوجي لا أطلب شيء لو كنت سأموت، ويحدث معك أمور لا أحد يشعر بك تكونين بموضع المتهمة، لماذا حزنتي على أغراض بيتك؟ لكنكم لا تشعرون بما شعرت ولم تعيشوا ظروفي قبل الزلزال وما مر لي بعد الزلزال. كان يقتلني شعور أن أحدهم من العائلة أو الأقرباء ويعرفني جيدًا لكن لا يشعر بي أبدًا شعور جدًا صعب. من طبعنا أنا وزوجي أننا ما إن حصل شيء لأحد نكن أول الداعمين بجميع المناسبات من الأفراح والمآتم وغيرها. حتى إذا أراد أحد مساعدة مادية أقسم أننا كنا نحرم أنفسنا ونفضل المساعدة.
فاطمة: لكن المحنة أثناء الزلزال؟
صباح: لكن المحنة التي عشتها خلال الزلزال لم يقف بجانبي أحد..
فاطمة: كانت أصعب؟
صباح: هذا الشعور جدًا جدًا صعب. فحادثة الزلزال في كفة وهذا الشعور في كفة أخرى.
فاطمة: صعب جدًا
صباحك جدًا، كانت بمثابة ضربة لي، قلت لزوجي حتى لو مت لن أنسى هذه الضربة التي علمتني درس، وجعلتني أقوى رغم الانكسار داخلي. لأنني كنت انتظر أحد من أقربائي أن يشعر بي ويساندني، كانوا منتظرين مني أن أطلب منهم وأذل بنفسي واشرح عن وضعي وظرفي! لماذا لم تسألوا من تلقاء أنفسكم؟ وتقفوا بجانبي ولو معنويًا بدون أفعال؟ ولو من باب الكذب أو جبر لخاطرنا. لكن أحدث نفسي أن رب العالمين كشف لي كل هذا من أجل أن أقوى بنفسي. لكن بني آدم ضعيف ويحب أن يرى أحد بجواره يسانده.
فاطمة: صح
صباح: يحب أن يشعر بالحنان والأمان مع أحد. وأزعل كثيرًا على زوجي لأن لم يقف أحد بجانبه في محنته.
فاطمة: سلامتكم
صباح: سلمكِ الله، لا ماديًا ولا معنويًا ولا أي شيء، وكأن لا أحد لدينا منفيين من الكرة الأرضية. كان يطلب مني ألا أخبر أحد وأنا أطلب منه ذات الشيء. حان وقت آذان العصر.
تنهدت صباح وأكملت… كانت تجربة جدًا صعبة مازال أثرها فيني.
فاطمة: صحيح، معك حق
صباح: تعلمت العديد من الدروس والعبر… (آذان صلاة العصر) بدأت صباح في البكاء.
فاطمة: أحضري المناديل إن أردتِ… اشربي الماء
أخذت صباح بيدها كأس الماء وشربت.. (بسم الله الرحمن الرحيم)
فاطمة: أتمنى أن لا تتكرر هذه التجربة ولطف الله بكم.. الحمدلله لم يتأذى أحد صحيح أن المنزل تدمر لكن كل هذا يمكن أن يتعوض بمشيئة الله.
تبكي صباح بحرقة
فاطمة: سلامتكِ
صباح: أكثر شيء صعب في التجربة التي عشتها، أن الأشخاص الذين ظننتِ أنهم سيقفون بجانبك لم يشعروا بكِ ولم يقدروا مشاعرك وما تمرين به.
فاطمة: الحمد لله أنها مضت وأنتِ وزوجكِ بخير. وأهلك ومن تحبين بخير.
صباح: احمد الله واشكره أن الضربة التي تلقيتها وما عشتها جعلتني أقوى وواعية لكثير من الأمور.
فاطمة: الحمد لله
صباح: الحمد لله رب العالمين
فاطمة: ان شاء الله سيتحسن وضعكم ووضع المنزل. كأنكِ نقلتِ الخيمة داخل أرض الدار؟
صباح: نعم نقلتها كي لا أبقى في الشارع. تركت خيمة للشارع والأخرى نقلتها للداخل من أجل ما تبقى من أغراض المطبخ وغرفة الجلوس، نقل هذه الأغراض إلى الخيمة لأن المنزل من داخل الغرف لا يمكن العيش بها. ما جعلني أبقى هنا نباتاتي.
فاطمة: تحبيهم كثيرًا؟
صباح: نعم، إذا أحببت يمكنك التقطت صور لهم. وأيضًا كي لا أبقى عند أحد أو انتظر من أي أحد أن يعطف أو يشفق علي. لا بأس يمكنني البقاء تحت جدران مدمرة وسقف مهدوم أفضل من البقاء عند أحد أو تنتظري شفقة من أحد. لأنني عندما كنت في أمس الحاجة لم أرى شيء من أحد سوا والدي ووالدتي.
فاطمة: الحمد لله على كل حال وحمدًا على سلامتكم
صباح: سلمكِ الله
فاطمة: شكرًا جزيلاً
صباح: ورغم هذا الشيء.. ولو أطلت عليكِ الحديث
فاطمة: لا عليكِ
صباح: رغم ذلك أثناء الزلزال كنت أشد عزم غيري، وأنا بداخلي كنت بأمس الحاجة لما يقف بجانبي. لا أنكر وجود أختي وأمي تشد عزمي كثيرًا وتذكرني بعوض الله ولعله ما حدث خير لي لأعيش في بيت ملكي، كانت تهون عليّ ما أعيشه. بذات الوقت أولئك الناس الذين عاملناهم بالحسنة ونعطيهم بدون مقابل، لم نرى منهم شيء وقت الحاجة هذه التجربة التي عشتها من خوف وزلزال جعلتني أقوى. وما مررنا به مذكور بالقرآن الكريم وها نحن نعيشه على أرض الواقع.
فاطمة: الحمد لله على كل حال، والحمد لله على سلامتكم وشكرًا جزيلاً على سرد تجربتك وحادثة الزلزال.
صباح: الحمد لله رب العالمين على كل حال
فاطمة: سيتعوض كل شيء بإذن الله وبيتكم سيتعوض أيضًا. يكفي أنكم بخير أدامكم الله لبعض أنتِ وزوجكِ.
صباح: الحمد لله ما جعلني أصبر هو زوجي الذي كان يدعمني كلما أزعجني أمر ما. كنت أخبره في كل مرة أنني عشت تجربة سيئة ولا أريد أن أبقى إنسانة طيبة بعدما رأيته من الجميع، كان يقول لي لا عليكِ نحن نعمل مرضاة رب العالمين. ولأنه إنسان طيب وقلبه صافٍ لأن يتركنا الله من رحمته.
فاطمة: إن شاء الله شكرًا لكلامكِ وما عبرتِ عنه من مشاعر.

أجرت مقابلة التاريخ الشفوي هذه:
فاطمة بدوي
العمل الفني من تصميم رباب المصري
هذه المقابلة هي جزء من مشروع ميتامورفوسيس لتوثيق التاريخ الشفوي لزلزال سوريا 02/2023 بدعم من اتجاهات – ثقافة مستقلة. حفاظًا على خصوصية المقابلين لن تنشر المقابلات كاملة، ويمكن للباحثين والمؤسسات البحثية الوصول لأرشيف التاريخ الشفوي للزلزال كاملاً عن طريق التواصل مع ميتامورفوسيس

