النص التالي هو مقتطف من تاريخ شفوي نتج عن مقابلة مسجلة مع فاطمة م. في 26 تشرين الأول 2023 أجريت المقابلة في دمشق، من قبل “ولاء متاعة”، لصالح منظمة ميتامورفوسيس
يجب على القارئ أن يدرك أنه يقرأ تسجيلاً صوتياً، وليس مقابلة مكتوبة، إنه تفريغ تقريبي قد يتضمن أخطاء مطبعية.
الحجم: 10صفحات.
فاطمة: حدث الزلزال في الساعة الرابعة فجراً، كنت جالسة على سريري، أحادث أصدقائي عبر الانترنت. في البداية شعرتُ أن السرير يتحرك بطريقة غير مفهومة، شككت بوجود شيء تحته، خفت من وجود أي حشرات أو قوارض، نظرت تحت السرير لم أجد شيء.
بدأت الأبواب تهتز بشدة، سمعت صوتًا يخرج من الأرض والجدران. أيقنتُ تلك اللحظة بأنها هزة أرضية. حتى تلك اللحظة كنت أضحك ولم يكن الأمر جلل. سجلتُ دخولي إلى حسابي فيسبوك لأتابع الأخبار وأعرف ما الذي يجري. أتت الأخبار بأن زلزالاً يضربُ مدينة حلب، ونحن كمجتمع لسنا مهيئين لطوارئ كهذه، ولم أمر من قبل بتجربة كهذه لأعرف كيفية التصرف الصحيح. ولاسيما أننا في دمشق كنا على بعد كبير من مركز الزلزال في تركيا.
نظرت حولي، لم ألحظ أي تفاصيل غريبة، فذهبت إلى النوم. استيقظت بعد 3 ساعات تقريباً في صباح 7 شباط، لأقرأ الأخبار التي تقول بأن العديد من الأبنية انهارت في مدينة حلب. يوجد لدينا عدد من الاقرباء في هذه المحافظة، حاولت الاتصال مرات عديدة، لم يجب أحد.
ولاء: بالفعل هذا هو الخوف الذي شعرنا به، عندما تعجزين عن الوصول إلى شخص يهمك في بلد آخر.
فاطمة: تماماً، حينها فقط شعرت بقوة الزلزال الذي حدث، وكم الأضرار التي خلفها، حاولت الاتصال مجدداً بعدد كبير من أقاربي، لكن لا مجيب (وأنا عم فور وأغلي). إلى أن أجابت طفلة قريبتي الصغيرة ذات العشر سنوات، بصوت بارد خائف، استطعت الإحساس بكم الخوف والصدمة اللذان تعاني منهما، الحمد لله أن صحتهم كانت جيدة، نتيجة الرعب خرجوا من منزلهم والتجأوا إلى الجامع الأقرب إليهم. منزلهم لم يصب بضرر، لكن الطابق الذي يلي منزلهم قد سقط بالكامل، فهربوا نتيجة الرعب والخوف. بالإضافة إلى أن المنزل يعاني أساساً من الرطوبة، فهو قابل للتصدعات والتشققات بشكل أكبر. نتيجة ذلك ظللوا ما يقارب الشهر أو أكثر بقليل في الجامع.
بعد هذا الاتصال لم أكن أعرف ما الذي يجب عليّ فعله. شعرت بالعجز بشكل كبير، خاصة بعد سنوات الحرب الاثنا عشر التي عشناها، لكن حادثةُ الزلزال كانت أمراً إنسانياً بشكل كامل، لا يختلف على إنسانيته أحد. فشعرت أنه عليّ أن أفعل شيء ما، لأن الإحساس بالعجز سيجعلني- بشكل شخصي – أشعر بنوبات هلع من الممكن أن تصل إلى الانهيار نتيجة الوقوف مكتوفة اليدين، حيث كل ما أفعله هو متابعة الأخبار على وسائل التواصل الاجتماعي ونشرها.
ولاء: إذاً شخصياً بالنسبة لك كان غالب ردة الفعل الأولى تتلخص بالرعب؟
فاطمة: تمامًا.
ولاء: لم تعانوا في البيت من أي تصدعات مثلاً؟ في دمشق سمعنا بسقوط بناء في كفرسوسة، كما أذكر.
فاطمة: سمعت بذلك أيضاً، غالب الأبنية التي انهارت هي أبنية قديمة مهترئة، أذكر أن بناء آخر قد سقط في منطقة حرستا.
ولاء: إلى أي حد سيطر عليك شعور الخوف في البداية؟
فاطمة: بالتأكيد كلنا عانينا من شعور الخوف بشكل كبير، إنه أشبه بصدمة نفسية عانى منها الجميع، القريب والبعيد، حتى المغتربون البعيدون تماماً عن موقع الزلزال، خوفهم على أهلهم ونتيجة المشاهد التي يرونها عن الزلزال جعلهم يعيشون صدمة نفسية طويلة.
ولاء: تماماً، خاصة أن الاتصالات في تركيا انقطعت لوقت طويل، إنهم لم يعرفوا حتى إن كان أقرباءهم أحياء أم أموات.
فاطمة: بالإضافة إلى أن متابعة وسائل التواصل الاجتماعي تؤدي لتلف أعصاب المتلقي، نتيجة مشاهدة مشاهد مركزة من الدمار ولفترات طويلة، بينما الموجودون فعلاً في الحدث يشاهدون الأمر بكثافة أقل، متابعة الأحداث على وسائل التواصل الاجتماعي استنزاف أكبر بكثير للمشاعر ممن يتواجدون في قلب الحدث، فالشخص حين يتواجد في قلب الحدث، يكون لديه شعور من الرضا بقدر العطاء الذي يقدمه، ولإحساسه أنه يقدم شيئاً ما.
ولاء: ذلك يعتمد على إيمانه حتماً.
فاطمة: بالتأكيد.
ولاء: إذاً لم يكن هناك أضرار مادية لأقربائك في حلب؟
فاطمة: لا، أبداً، الحمدالله.
ولاء: بعد استيعابك لهول حادثة الزلزال، من هم الأشخاص الذين فكرتي بهم؟ وما الذي حاولت القيام به؟
فاطمة: فكرت بأقربائي المتواجدون في حلب، بهذه الفتاة الصغيرة التي أخبرتك عنها، فهي تعني لي الكثير، عشت معها ما يقارب الخمس سنوات، بدأت التفكير في الذي يجدر علي القيام به في هذا الوقت، قمت ببعض الاتصالات مع أصدقاء مختلفين، فلدي شبكة علاقات جيدة، هاتفت أصدقائي في حلب، كان هناك بعض المبادرات الفردية التي قاموا بها أهالي حلب وكانت رائعة فعلاً )بتاخد العقل(، حيث كان لديهم استجابة عالية، تواصلت مع عدد من الأشخاص كانوا يرغبون بالانطلاق من دمشق إلى حلب لتقديم المساعدة، لم أجد أحد جاهز للانطلاق في هذا الوقت، فحاولت أن أنسق طريقة ما مع أشخاص في حلب، وعند الرابعة فجراً قمت بحجز تذكرة إلى حلب عن طريق )البولمان(.
ولاء: هذا بتاريخ 7 شباط، أليس كذلك؟
فاطمة: تماماً، كانت الليلة ماطرة جداً، أعتقد أنك شاهدتي قليلاً من الفيديوهات التي انتشرت عن حالة الطقس السيئة ذاك اليوم.
ولاء: بالتأكيد، أذكر أنه أثر أيضاً على الأبنية المهدمة وإخراج العالقين تحتها.
فاطمة: كانت الأمطار فعلاً غزيرة جداً، حتى السيارة التي أوصلتني إلى )البولمان( حاولت الوصول إلى أقرب نقطة سالكة من منزلي، فالمطر كان غزيراً )حبال عم تضرب(، وكنت أحمل أغراض سفر حيث لم أكن أعرف متى سأرجع، وصلت على حلب بعد حوالي الست ساعات، اجتمعت مع من حاولوا المساعدة بشكل فردي، ثم بدأنا بالتفكير في الذي علينا فعله، وبوضع خطة، حاولنا تقسيم المهام.
ولاء: المنطقة التي يتواجد بها أقرباءك ماذا تسمى؟
فاطمة: الشيخ مقصود تابعة إدارياً للأكراد.
ولاء: كم كان حجم الضرر هناك؟
فاطمة: لم يكن كبيراً مقارنةً بالأماكن الأخرى، فغرب حلب تضرر بشكل أكبر بكثير، لكن هناك مناطق أخرى في الشرق ك “حي الهلك” تضررت بشكل كبير، خاصة أنها عانت كثيراً أثناء الحرب، فهي أصلا لم يتم تأهيلها بعد الحرب للسكن بعد، وعلى الرغم من هذا كانت مأهولة بالسكان، كذلك “حي الشعار”، و” حي مساكن هنانو ” تشعرين إنها أماكن أشباح، وتستغربين من إمكانية العيش فيها.
ولاء: الأمر يشبه الغوطة الشرقية في ريف دمشق؟
فاطمة: بالضبط، الأمر المؤسف أن هناك فعلاً أشخاص بحاجة هذا الكم القليل من المساعدات؛ علبة حليب، ملابس، والذين تستغربين فعلاً كيف يعيشون هناك في أبنية متصدعة ومنهارة تماماً بما يشبه البسكويت فوق بعضه، إنهم أشخاص قد عانوا أصلاً من الحرب لمدة اثنا عشر عام، اعتادوا الجوع والقلة، أعجز حقاً عن وصف الوضع لكم البؤس والدمار.
ولاء: إذا، عندما سافرتي على حلب، ورأيت هؤلاء الأشخاص الذين لم يستفيقوا بعد من أثر الحرب الطويلة، ليعودوا إلى حياتهم الطبيعية، فيعانوا مجدداً من الزلزال، كيف تستطيعين وصف ملامح وجوههم أو مشاعرهم؟
فاطمة: كانت حالة الرعب سائدة بشكل كامل، لم يكن الشخص خائف من الزلزال فحسب، بل مما يليه أيضاً.
ولاء: بالفعل، فالهزات الارتدادية كان لها دور كبير في تعزيز شعور الخوف.
فاطمة: نعم، أصبح الناس تراقبها لحظة بلحظة ويستشعرون درجتها أهي 4,4 أم 3,7؟ حتى أن البعض صار ينام في الشارع فيشعر بالأمان أكثر.
ولاء: أذكر ذلك، في اللاذقية عندما تم الكلام عن الهزة الارتدادية، العالم نزلت إلى الساحات خوفاً منها.
فاطمة: نعم، في دمشق أيضًا، سمعت بالكثير ممن نزل إلى الشوارع.
ولاء: سأخبرك بحدث مضحك قليلا ً ذكرته نتيجة الحديث عن الهزات الارتدادية، نحن بمنطقة “دمر ” لم يكن الحدث كبيراً، لكن عائلة عمي يسكنون في الطابق الذي يلي بيتنا، على أثر الخوف نتيجة الهزة الارتدادية، صعدوا إلى السطح بدل أن ينزلوا إلى الشارع، الاستجابة نتيجة الرعب أحياناً تكون بعيدة جداً عن العقل والمنطق.
الآن أخبرينا قليلاً عن شكل المساعدات التي قمتي بتقديمها في حلب؟
فاطمة: تطوعت في البداية مع أحد المبادرات الفردية للمساعدة، في اليوم الأول، شعرت جداً بالإحباط، فلم أشعر أن وجودي له قيمة، شعرت أنني عبء عليهم خاصة ً أن الأشخاص الذين قاموا باستضافتي كانوا ينامون في السيارة، وفي الليلة الأولى فعلاً نمت في السيارة. في اليوم التالي، بدأ قليل من التواصل مع الأصدقاء والأقرباء، عندما عرفوا أنني في حلب، فالغالبية كان يرغب في إرسال مبالغ مالية لمن يهمه أمره، هكذا شعرت أن لوجودي أثر، وشعرت بثقتهم بي في إيصال المبالغ لأصحابها.
ولاء: بالفعل، سمعنا كثيراً عن عدد كبير من المساعدات التي لم نعرف أين ذهبت!
فاطمة: تماماً، لأن الأمر الرسمي يأخذ وقت طويل للحصول على الموافقات، ويتم إجراء إحصائيات. أذكر أنه كان هناك 3 مبادرات رسمية عملت على موضوع المساعدات. لكن يمكنني القول إن الأسبوع الأول حملته المبادرات الفردية بشكل كامل. الأمر الآخر الذي قمت بالمساعدة به، كانت مبادرة لجمع أكبر عدد ممكن من الفوط النسائية للمتضررات من الزلزال المتواجدات في الحدائق أو الخيم أو المراكز، قمنا بجمع عدد كبير وتوزيعه طبعاً بالتعاون مع فرق أخرى.
تعلمين أيضاً، بمشاكل قلة توفر البنزين اللازم لنقل المساعدات، والحاجة إلى من يقوم بحملها كونها كانت كميات كبيرة تحتاج إلى مستودعات، لذلك قمنا بالتواصل مع عدد من الفرق المحلية المرخصة للمساعدة. الأمر الثالث، كان مع جمعية القدس الخيرية، انطلقوا من الشام إلى حلب لتقديم المساعدة، وفي بداية وصلوهن حصلت هزة ارتدادية كبيرة.
ولاء: هل تذكرين تاريخ هذا الحدث؟
فاطمة: ليس تماماً، تقريباً بعد أسبوع من أول زلزال.
ولاء: نستطيع القول 12 أو 13 شباط.
فاطمة: ممكن، هذه الحملة من جمعية القدس الخيرية، كانت معنية بالطبابة. كانوا ما يقارب خمسين شاب لكن لم يكن معهم أي فتاة. ساعدتهم خلال وجودهم لمدة 4 أيام، كمرافقة لجولاتهم في “مقبرة الصالحين”، ومنطقة “الهلك”، ومنطقة أخرى للفلسطينيين في ريف حلب. شاركنا فيها بأنشطة للأطفال وتوزيع هدايا. في هذه المناطق كنت أدخل إلى كل خيمة وأُقيّم احتياجاتهم، وأتأكد إن كان لديهم أطفال، وما نوع الحليب الذي يحتاجونه، وحفاضات الأطفال التي يحتاجونها.
بالإضافة إلى مرافقة الطبيب لمعاينة المرضى، كما تعلمين المجتمعات لدينا لها خصوصية بالنسبة للمرأة، من الممكن أن تخجل أن تخبر الطبيب عن عرض ما، حيث كانوا بعد أن يذهب الطبيب ينادوني فيشرحون لي بعض الأعراض لأخبرها للطبيب، الذي من الممكن أن يحتاج لإجابات إضافية لأعود بسؤالها، ونقوم بوصف الأدوية المناسبة لها ونعطيها إياها.
ولاء: بما يشبه الوساطة؟
فاطمة: تمامًا.
ولاء: بعد انتهاء حادثة الزلزال وعودة الأمور إلى طبيعتها تقريباً، كيف تأثرت حياتك؟ كعمل؟ كدراسة؟
فاطمة: منذ بداية العام أي قبل حدوث الزلزال وأنا متوقفة عن العمل، فأثناء فترة الزلزال فكرت أن غالبية الأشخاص بأشغالهم الطبيعية، وأنا لا أعمل. ولكن لدي قليل من أعمال التي أقوم بها بشكل مستقل عن بعد، وكنت أمول نفسي من مدخراتي قليلاً، لمساعدة الآخرين والشعور أنني أقوم بشي ء مهم لا أكتفي بالمراقبة. لم يتأثر عملي، لكنني تأثرت نفسياً جداً، فقد بقيت في حلب لما يقارب الشهر وأسبوع، لم تكن ظروف جيدة بالتأكيد، الفترة الأولى كانت بين اضطراري للنوم في السيارة، وأحيانًا في غرفة صغيرة بلا إضاءة، إلى أن استطعت أن أحضر سرير بما يشبه سرير العساكر.
ولاء: أي أنه تعب جسدي، بالإضافة إلى الحالة النفسية السيئة؟
فاطمة: بالضبط، حتى الطقس كان بارداً للغاية، فعدت يوماً إلى دمشق لأجلب ملابس شتوية تساعدني على تحمل البرد، فوسائل التدفئة كانت معدومة. على الرغم أن المنطقة كانت وسط حلب لكن أبنيتها قديمة. وأثناء تواجدي هناك، وقع زلزالٌ آخر تقريباً بعد 12 يوم، كنت في هذه الغرفة الصغيرة، وقد عدت من مهمة وأريد النوم قريب الساعة الثانية عشر ليلا ً، فتحت عيوني شعرت أن الغرفة بكاملها تهتز، والبناية تذهب يميناً يساراً، أحسست أنني أسمع صوت احتكاك “البلوكة على البلوكة” فوق بعضهم، هذه التفاصيل عندما أذكرها اليوم أحس أنها خيالية.
ولاء: بالفعل، هذا ما حدث لنا جميعًا، لليوم عندما أرى المروحة في السقف تهتز يعود لي شعور تلك الليلة.
فاطمة: كما أن السرير الذي كنت أنام فوقه من حديد شعرت أنه يرقص رقص حرفياً والناس في البناية تركض هرباً، وأنا بملابس النوم، لا إنارة، هواتفي مطفأة، لا أملك شحن. وبابُ الغرفة كان له طريقة معينة لفتحه، ولم أستطع فتحه، والعالم في الخارج تركض، و أنا عالقة. إلى أن فتح الباب، قمت بحمل بعض الأغراض المهمة التي من الممكن أن أحتاجها للتوثيق كاللابتوب والمايك، شعرت أن رب العالمين أراد أن يخفف عني هذا الخوف فأثناء دخولي للبيت رأيت “حارة يهود ” القريب من مكان سكني وهي مهددة بالهدم محاطة بأشرطة صفراء أي أنها ستذهب للهدم، فراح تفكيري أن الأمر ليس زلزالا إن ما يقومون بهدم هذه الحارة، ولربما الخوف هو الذي دفع عقلي للتفكير بتلك الطريقة بحثاً عن اطمئنان ما، كل خوفي كان منصب على التواصل مع أهلي الذين كانوا بالتأكيد يحاولون الاتصال بي، فحاولت أن أبحث عن مكان للشحن، والناس كانت خائفة لم ترغب بتقديم المساعدة، إلى أن ابتعدت قليلاً عن مكان السكن فوجدت من أستطيع أن أقوم بشحن هاتفي عنده لأقوم بالتواصل مع عائلتي، بصراحة شعرت أنهم خائفون أكثر مني.
ولاء: فعلياً، هذا الأمر الذي يخيف أنك لا تفكرين بنفسك فقط، إ ن ما أهلك وأحبائك وبالأخص عندما تكونين بعيدة عن مركز الحدث.
فاطمة: بالضبط، يكون الخوف أكبر.
ولاء: نعم العديد من الأشخاص في حلب وإدلب واللاذقية ظللوا في حالة مترقبة من الخوف، خاصة مع تتابع الهزات الارتدادية.
فاطمة: نعم بالإضافة إلى أننا سمعنا أن هذه الهزات من الممكن أن تكون أخطر، خاصة ً أننا لسنا مهيئين لحالات الطوارئ هذه. على الرغم أننا أمضينا اثنا عشر عاماً من الحرب، أي أنه من المفروض أننا تعلمنا كيفية التصرف في حالات الطوارئ كهذه، وكيف تتوزع المهام، أو كيف تتجهز المستودعات.
ولاء: حتى كدعم نفسي، كتصرفات بين الأم وأطفالها، تشعرين أنها لم تجيد التصرف، هناك أمهات يزيدون خوف أبناءهم أكثر من طمأنتهم، شخصياً، من رحمة رب العالمين بنا أن أبناء أختي كانوا عندنا في المنزل حين الحادثة لكن لم يستيقظوا أصلاً، على الرغم أننا نسكن في طابق أول، لكن الهزة التي أصابت المنزل كانت مخيفة للغاية، للوهلة الأولى قرأت الشهادتين، أحياناً ردة فعلنا عن الموقف، تكون أكبر من الموقف بحد ذاته.
فاطمة: تماماً كما حدث مع أقربائي هؤلاء في حلب، حين استيقظ من نومه على إثر الزلزال، قرأ الشهادتين، وسجد، شعر أن البناء سيسقط تمامًا.
ولاء: لأكون صادقة معك، تأثير الزلزال كان أكبر بالنسبة لي، إنه يتلخص بشعور الرجوع إلى الله، بقيت لمدة شهر تقريباً، أتوب يومياً، قبل النوم، وعند الاستيقاظ.
فاطمة: العديد من الأشخاص أخذوا قرارات دينية عديدة في هذه الفترة، من كانت تأجل موضوع الحجاب ارتدته، أو من تريد الالتزام بالصلاة التزمت بها.
ولاء: لأن الأمر ظاهرة أكبر من فعل الإنسان، فالله دوماً هو الملجأ الوحيد.
فاطمة: والاحتياج لله كبير جداً.
ولاء: خاصةً أننا خارجين من حالة حرب طويلة، والوضع الاقتصادي لا يتحمل حالة طارئة كهذه.
فاطمة: أيضاً موضوع النظافة، الأغذية الخاصة بالأطفال، حليب الأطفال الذي انقطع، للأسف أيضاً في كل أزمة تظهر هذه الفئة التي تستغل أوضاع الناس الصعبة لتنمية أموالها، على الرغم أن الأمر يمس الجميع.
ولاء: بالنسبة لمحيطك، وأهلك، ووالدتك، وأخيك؟ كيف كانت ردة فعلهم الأولى؟
فاطمة: الكل كان بحالة خوف، أخي لم يشعر بالزلزال أصلاً، والدي استيقظ، وبالفور أخذ يتابع الأخبار، والدتي دخلت بحالة رعب كبيرة ككل من تابع أخبار وسائل التواصل الاجتماعي بطريقة مكثفة، ثم تتالت عليها نوبات البكاء والهلع، عندما سافرت إلى حلب، كانوا متعاونين جداً، أي مساعدة كنت أحتاجها، كانوا يقومون بتلبيتها، لكن بالمجمل كانت حالة الخوف كبيرة، خاصة أنني في اليوم الأول لم تكن والدتي تعلم أنني مسافرة إلى حلب، فبعد أن وصلت إلى هناك وتقصيت الوضع جيداً، وأنه لم يكن بحالة الرعب التي تخيلتها، أخبرتها، هناك مناطق لم أشعر فيها أصلاً أن هذه المدينة قد تعرضت لزلزال أو حتى حرب سابقة، بالمقابل هناك أماكن من الممكن أن تبقي بحالة بكاء لشهور عديدة بعد أن تقومي بزيارتها.
ولاء: الأمر يشبه مناطق في دمشق أيضاً، تصلين لمنطقة شارع الثورة ا لأحياء كلها طبيعية، تقطعين “جسر الكباس” لتصلي لمنطقة الغوطة، فتشعري أنك في منطقة مهجورة تماماً.
فاطمة: كنت أقول لهم أن هناك أمر غريب، إنها قدرة من رب العالمين، عندما تتعاملين مع الأشخاص المحتاجين للمساعدة تشعرين أنك تملكين رباطة جأش، لم تعلمي متى ملكتيها أصلاً، أذكر حادثة شهدتها لامرأة ممن لجأوا إلى “مقبرة الصالحين” كانت تبكي بشكل هستيري مع صراخ من وقت الظهيرة إلى الساعة الواحدة ليلاً، لأن ها فقدت ابنتها، ليس من الزلزال بل بسبب البرد والجوع، لكن بنفس هذه اللحظة شعرت أنني قادرة على التحكم، مترابطة وقوية، وعقلي يعمل بشكل جيد، أستطيع تسجيل احتياجات الجميع، دون أن تأخذني العاطفة لأعطي أحد على حساب آخر، لكن حينما عدت إلى غرفتي الصغيرة، وأن أعد فنجان قهوة، أجد نفسي فجأة انهرت، كأن كل الألم الذي لم أظهره، ظهر فجأة الآن.
ولاء: بقدر محاولاتك لتظهري بمظهر الصبورة، تنهارين بشكل كامل، نريد أن نبتعد قليلاً عن موضوع المساعدات، كحالة إنسانية أو نفسية، أخبرينا قليلاً عن هذه المرأة التي فقدت طفلتها نتيجة البرد، أو أي حالة مشابهة أثرت بك.
فاطمة: قصة هذه المرأة كانت من أكثر القصص التي أثرت بجميع من كان موجود ً ليس فيي فقط، المنطقة أصلاً التي كنا متواجدين فيها كانت مقبرة صغيرة ومرعبة ولا أبنية سكنية حولها.
ولاء: فكرة أن تلتجئي لمقبرة لوحدها مرعبة.
فاطمة: فعلا ً، أن تلتجئي لتعيشي بين الأموات، المنطقة حولها كانت كلها مهدمة على الأرض، والعالم تضع شوادر بين شواهد القبور ليستطيعوا النوم، المشهد لوحده كان مخيفاً، وكنا نذهب ليلاً، لكثرة الضغط الذي من الممكن أن نتعرض له نهاراً نتيجة حاجة الجميع للمساعدات، وهذه المرأة تبكي بشكل هستيري، تصرخ: “وين بنتي، ليش أخدتا؟”. تشعرين أنها ليس بكامل وعيها، وهي أصلا ًمريضة، مازالت صورتها حاذرة في ذهني، كانت متمددة على ما يشبه السرير، هزيلة بشكل مخيف، “تولول” بهذا الشكل، والصوت يصل لكل المقبرة، وخاصة في الليل.
ولاء: أي أنها بعد أن أنقذت طفلتها من الزلزال، لم تستطع إنقاذها من الجوع.
فاطمة: أذكر أيضاً امرأة أخرى، كانت جالسة خارج خيمتها التي من الممكن أن نسميها خيمة، عندما كنا نوزع المساعدات. تملك هذه المرأة ثلاثة أطفال، أصغرهم كانت طفلة ذات العامين والنصف تشعر بالبرد الشديد الظاهر عليها جداً حتى ثيابها مبلولة تماماً، حاولت أن أقنعها أن تعود للخيمة لشدة البرد، ونحن نأتي اليها في خيمتها لنؤمن لها حاجاتها، لكن كان جوابها “بخاف تنسوني”، أصريت عليها لشدة خوفي على البنت الصغيرة، الذي بالتأكيد ليس أكبر من خوف أمها عليها، لكن يبدو أن حاجتها إلى هذه المساعدة كان أكبر من خوفها على صغيرتها، إنها كمن يعرضها لنا بهذه الحالة البائسة، لنشعر بالتعاطف معها، هناك مشاهد كثيرة كهذه، وخاصة فيهذه المنطقة التي زرتها مرتين، مرة لنقدم مساعدات طبية، وأخرى لتقديم ملابس )امتلأت عينيها بالدموع(.
ولاء: كقريب لك لم يتأثر أحد بشكل جسدي أو مادي؟
فاطمة: لا، فقط أقاربي هؤلاء خرجوا من منزلهم لمدة شهر وعادوا، لكن الذي عانوه أصلاً موضوع الطعام، لم يحصلوا على شيء يكفي، )علبة سردين لخمس أشخاص مع رغيف خبز، وطبعا منطقة الشيخ مقصود لها خصوصية، من الصعب أن تقومي بإدخال شيء من خارج المنطقة في حال لم تكوني من سكانها، حتى الأموال صعب إدخالها، هذا ما عانوه بشكل رئيسي ككل الناس، للأسف لم أستطع أن أجلس عندهم لخصوصية المنطقة، وخاصة بقاءهم في الجامع سيمنعني من فعل شيء، سأكون عبء عليهم، لكن أخذت الفتاة الصغيرة في محاولة لأجعلها تخرج من الحالة النفسية التي تملكتها، قمت بحجز غرفة في فندق، على الرغم من صعوبة إيجاد غرفة بسعر مناسب، والمكان كله كان مهدد بالإخلاء، حصلت على غرفة حتى تستطيع أن تستحم بشكل جيد وتأكل كما تحب، بالإضافة إلى محاولة أن أحادثها، لتعبر أكثر وتخرج من الحالة التي أصابتها، سألتها عن الذي رأته، حاولت أن أشجعها على التعبير عن مشاعرها وقتها، فما زال صوتها منذ أن ردت علي أول مرة باهتاً جداً، حاولت طمأنتها وتقويتها، وتعزيز إيمانها، فالإيمان هو الذي يعيننا في هذه الأوقات، بالأخص ونحن نتكلم الآن والأحداث تتصاعد في فلسطين، الشيء الوحيد الذي يستطيع الواحد قوله، من يستطيع أن يقف وقفة كهذه ليقول “يا رب خذ من دماءنا كما تريد فقط ، لنخلص من الظلم الذي نعانيه”، من غير شخص يملك هذا الإيمان الراسخ ليقوم بأفعال كهذه.
ولاء: فعلاً، إحساس الرضا هذا لا يطغى على الإنسان، إلا حين يملك عقيدة قوية.
فاطمة: تماماً، من الممكن أن تكوني منهارة وتعانين من نوبات هلع واكتئاب، لكنك قادرة على التصرف بحكمة، وهذا لا يحدث سوى نتيجة الإيمان.
ولاء: في حال في يوم من الأيام، أحببت أن تقومي بتأريخ هذا الحدث، او إلقاءه كحكاية لأولادك، كتجربة إنسانية، كيف أثر على فاطمة؟
فاطمة: قبل عدة أيام كان عيد مولدي، وكنت أحاول أن أعدد أبرز الأمور التي حصلت لي في هذا العام، فدائما ً يسقط مني حدث الزلزال، على الرغم أنه أخذ الحيز الزمني الأكبر )شهر وأسبوع(، عندما أتخيله الآن أشعر أنه كان مرحلة خيالية، أكاد لا أصدق أنني كنت في هذه الظروف فعلاً، كانت المرة الأولى التي أسافر لوحدي، ظروف السفر كانت غريبة، الطريق ممتلئ بالثلج، كان صعباً جداً، ثم ظروف السكن كانت غريبة أيضاً، كل من أحدثه عنها، يقول لي ) فاطمة شو اللي جابرك ع هاد الشي(، عندما كنت أسجل دخول إلى فيسبوك في تلك الفترة، لأوثق الأشياء التي أراها، كانت التعليقات تشبه ) بطلة – وشيء من هذا القبيل( كنت أشعر هل انا حقاً كذلك؟ كنت مستغربة من ردود فعل الآخرين، كنت أرى أنني شخص أناني، أنني سافرت لخوفي من شعوري بالعجز والذنب، أي أنني سافرت لأجل نفسي في الدرجة الأولى، فعلاً أشعر أنها كانت فترة خيالية، الآن وانا أتذكر معك هذه التفاصيل، شعرت أنني كمن قرأ رواية والآن يتذكر تفاصيلها، كأنني في تلك الفترة لم أكن بوعيي الكامل، كانت حياتي تمشي بناءً على الحدث الذي يطرأ، شعوري تجاه تلك الفترة مختلط للغاية، ربما سأصف هذه الفترة بأنني عدت لمواجهة الخوف الذي عانيته طوال فترة الحرب، خاصة أنني شخص يعاني من اضطراب القلق والتوتر، كنت أشعر بالراحة حين أواجه هذا الخوف والقلق، كمن يتحدى نفسه، لربما أشد ما يصفها انها كانت درس تعلمت منه كيف أبادر ولا أبقى مع المتفرجين.
ولاء: كيف اختلف إحساسك منذ أن قرأتي الأخبار عن الزلزال بشدته تلك؟ وبين إحساسك عندما حاولت تقديم المساعدة؟
فاطمة: أستطيع القول إنه اختلف ما يقارب 80%، بشكل كبير جداً، لا أنكر أن الأمر كان له الكثير من الآثار النفسية علي، لكني متأكدة انها أكثر خفة من بقاءي في عداد المتفرجين، خاصة ً بما يناسب شخصيتي، فأنا أحب أن أبقى بين الناس، أعاني مما يعانونه، لم أستطع ان أبقى على اتصال مع أقربائي وأصدقائي الكثر في حلب عن طريق الهاتف فقط.
ولاء: أصدقاؤك هؤلاء هل عانى أحده م بشكل شخصي من آثار زلزال؟ هل فقد قريب؟ هل فقد منزل؟
فاطمة: لا بفضل الله، استطاعوا تأمين أنفسهم وأهلهم، حتى بيوتهم لم تكن ضمن الأبنية التي انهارت، ولربما هذا من حسن الحظ، فقد استضافوني لفترة جيدة لديهم على الرغم أن طبيعة العلاقة بيننا لم تكن بوحدة الحال تلك، لكن طابع الناس في حلب مبادرون جداً، لا أظن الأمر نفسه من الحفاوة كنت سأجده في دمشق لو حصل الزلزال هنا، بالإضافة إلى حبهم الكبير لمدينتهم، الشباب هناك متعاون ومضياف.
ولاء: أتعبتك؟
فاطمة: لا، إنها الذكريات التي تتعب أحياناً، الخوف من استرجاع الذكريات هو خوف من استرجاع المشاعر، لكن عندما أتذكرها مرة بعد أخرى تخف حدتها قليلاً.
ولاء: هل تشعرين أنك محظوظة لمرورك بهذا التجربة؟
فاطمة: : إنها أقدار، لكنني محظوظة لأنه ولد داخلي هذا الدافع للمساعدة، أسافر عادة مع جماعات، لكن للمرة الأولى أسافر لوحدي ولمجهول، ربما رافقني الحظ قبل حادثة الزلزال، حيث أنني مررت بتجارب عديدة هيأتني لأكون بردة الفعل هذه عند حدوث الزلزال، أغلبها كانت ضغوط نفسية، خاصة أنني سافرت دون علم عائلتي في البداية، لكن كان لي عشم انهم سيتفهمون عدم قدرتي على احتمال رؤية هذا الدمار دون محاولة فعل شيء، فالمشاهدة فقط تتعبني أكثر مما تساعدني، ومحظوظة أيضاً بهذه العائلة التي تسمح لي أن أقوم بهذه المبادرات، لم أصل إلى هنا بسهولة ،لكن نتيجة شخصيتي بدأوا تقبل هذه الأمور، واليوم أشعر أنها وصلت للفخر وبالأخص من والدتي.
ولاء: هل ترغبين في إضافة شيء؟ حدث ما؟ موقف؟ فكرة؟ حالة إنسانية؟
فاطمة: أذكر حادثة في محطة قطار التي كانت تعتبر مركز نزوح، كانت العالم تنام في مقطورات القطار. حينما دخلنا وبدأنا توزيع المساعدات، تعرفت على فتاة، كانت تدرس الشهادة الثانوية هذا العام، أخذت أدردش معها، قليلاً.
سألتها: ما الذي ترغبين في دراسته بعد حصولك على الشهادة العامة؟
أجابتني: “أريد أن أصبح محامية”. سألتها لماذا؟ فأجابت “لأدافع عن المظلومين، ظلمت كثيراً بحياتي، فأريد أن أدافع عنهم”.
قلت لها: أحسنت.
للأسف فقدت والدها ووالدتها في الحرب أمام عينيها. سألتها كيف تعيشين في القطار هنا؟ أجابت الحمد الله لدي أصدقاء، وماذا عن بيتك؟ أجابت متصدع كثيراً من الممكن أن يقع لا أعرف. سألتها: هل تستحمين هنا؟ أجابت: لا نستحم هنا، لا يوجد مياه كافية، الرجال يذهبون للمنزل يستحمون بسرعة، سألتها: منذ متى لم تستحمين؟ أجابتني: منذ 20 يوم، هذه الفتاة علقت في ذاكرتي كثيراً.
أيضاً هناك فتاة التقيتها في حديقة مع عائلتها، أخبرتني والدتها أن ابنتها تعاني كثيراً من نوبات رعب، ولا تستطيع النوم، كلما حاولت النوم لا تنام لأكثر من دقيقة لتستيقظ وهي تصرخ، حاولت التكلم مع الفتاة لوحدنا، تحدثنا قليلا، حاولت دعهما قليلاً لكني لا أملك الخبرة والعلم لذلك، فأرسلت رقمها لمتخصصين.
ولاء: هل ترغبين في إضافة شيء في الختام؟
فاطمة: هذه الحادثة إن كانت تعلم شيء لربما كان العنوان له التكافل الاجتماعي، ألا ينتظر الإنسان المساعدة من أحد بل يبادر هو في ظل أي ظروف، لا يوجد شيء يسمى “حوالينا ولا علينا”، دائما ما يصل لغيرك، من الممكن أن يصلك أيضاً، مهما مر الإنسان بأزمات نفسية ينبغي أن يتمتع بحس المبادرة.
ولاء: شكرا جزيلا لك فاطمة، سعدت جداً بالكلام معك.

أجرت مقابلة التاريخ الشفوي هذه:
ولاء متاعة
هذه المقابلة هي جزء من مشروع ميتامورفوسيس لتوثيق التاريخ الشفوي لزلزال سوريا 02/2023 بدعم من اتجاهات – ثقافة مستقلة. حفاظًا على خصوصية المقابلين لن تنشر المقابلات كاملة، ويمكن للباحثين والمؤسسات البحثية الوصول لأرشيف التاريخ الشفوي للزلزال كاملاً عن طريق التواصل مع ميتامورفوسيس

