هل نحتاج لموارد غنية، واستثمارًا طائلاً في الوقت لإنتاج تحقيقات مفيدة؟
غالبًا. ولكن في ذات الوقت، قد نجد الإجابات في بعض أصغر الأمور التي نأخذها كمسلمات أو أمور عابرة.
هنالك الكثير من الجدل الدائر حول مؤسسات التعليم العالي في الشمال السوري ومدى كفاءاتها في تقديم تعليم ينهض بالجيل القادم من الشباب السوري، ووجهت لها العديد من الانتقادات، بعضها من كوادر هذه المؤسسات ذاتها، حول تكرارها لذات أخطاء المؤسسات التعليمية لدى النظام الذي قامت ضده. هنالك الكثير من الأخذ والرد، والتحقيقات والتبريرات حول هذه القضايا، ولكن ماذا لو أعطتنا ورقة واحدة نظرة وافية عن هذا الموضوع؟
أُقدم دروسًا خاصة عن بعد لتعلم الإنكليزية، وبعضٌ من طلابي هم تلامذة في كلية الآداب في جامعة حلب الحرة. لاحظت لدى هؤلاء الطلاب ضعفًا شديدًا في اللغة الإنكليزية مقارنة بأقرانهم من طلاب الجامعات التركية، بالإضافة لامتلاكهم كمًا من المعلومات الخاطئة التي تلقوها من أساتذتهم، وجل تركيزهم هو التقاط الحد الأدنى من المعلومات الكافية للنجاح في الامتحان فقط- بمعنى أن الهدف ليس تذوق الجمال في قصائد شكسبير، أو التعمق في روايات همنغواي، أو التقاط روح قصائد وايتمان، وإنما فقط التقاط النقاط المهمة الكافية للنجاح في الامتحان، حتى لو عنى ذلك دراسة ملخصات بدل النص الأصلي، أو مشاهدة الفلم بدل الرواية، وغيره من حيل تبتعد عن مغزى العلوم الإنسانية.
لا يمكنني أن أسهب في الحديث عن هذه المعضلة وأنا ابنة هذا النظام نفسه، فقد تخرجت من جامعة حلب بذات المستوى؛ لم تزودني الجامعة بأي مهارات يمكن الاعتماد عليها، وكل ما تعلمته لاحقًا كان بجهد شخصي خارج الجامعة. لكنني توقعت أن تثور جامعات الشمال على هذا الواقع المخزي وتقدم تعليمًا يركز على المعرفة وتنمية المهارات، عوضًا عن تقديم الاعتمادات منقوصة الهدف.
على كلّ تلك مسألة أخرى يطول النقاش فيها، ولست في موقع يأهلني لمناقشتها أصلًا. ما أود التحدث عنه هو ورقة الامتحان التي وصلتني من طلاب في السنة الأولى بالأدب الإنكليزي، وهذه صورتها:

أي شخص مطلع بعض الشيء على اللغة الإنجليزية، وليس بالضرورة صاحب اختصاص، سيجد الأخطاء الفادحة التالية. دعونا نمر عليها واحدة واحدة كتمرين للفائدة:
1. كلمة “for” غير ضرورية هنا.
2. كلمة presented في الجملة التالية يجب أن تكون presents للحفاظ على صيغة المضارع مع موضوع “التغير المناخي”. و “leading to” غير متصلة بشكل صحيح بالجملة مما يخلق عدم وضوح، لذلك يجب وضع فاصلة قبلها. أما الفاصلة بعد and فهي بالتأكيد كارثة ولا يجب أن توضع فاصلة في هذا الموقع. هاتان الملاحظتان عن موقع الفاصلة بالتحديد مهمتان جدًا، فكما سنلاحظ تاليًا يطلب المدرس من الطلاب وضع علامات الترقيم في مكانها الصحيح، فإذا كان المُدرس يُخطأ في أبسط مواضعها الغير مختلف عليها، على أي أساس يقيم أجوبة الطلاب؟
5. “school” إحدى الكلمات الإنجليزية التي لا نسبقها بـ the عادةً. فوق ذلك، وردت في جملة المُدرس في صيغة الجمع، وهكذا أصبحت إضافة the كخطأ لا يغتفر من طالب مرحلة ابتدائية لا مدرس في الجامعة. كذلك الأمر بالنسبة لـ Independence Day، فأيام المناسبات لا تُسبق بالتعريف.
6. يجب تغيير “Will” إلى “would” للحفاظ على التناسق في زمن الفعل.
7. ليس من الواضح إن كانت PHD كتبت هنا خطأ، أم من المفترض بالطلاب تصحيحها. في كل الأحوال يجب أن تُسبق بـ “a”.
12. الكثير من الجمل هنا غير مركبة بشكل واضح، لكن هذه الجملة الأخير هي العلة الأوضح. أعتقد أن المقصود قوله هو: “the importance of Turkish elections for Syria’s context”.
بالطبع عدا الأخطاء اللغوية الفادحة، نلاحظ ركاكة أغلب الجمل وسوء تركيبها، وكأن الذي يكتبها ما يزال يتعلم الإنجليزية في المرحلة الأولى ويواجه صعوبة في ترجمة أفكاره. “الشتاء صعب في سوريا لأنه ليس هنالك وقود ولا منازل” مثلاً، جملة غريبة، ويمكن أن تصاغ كالآتي:
Winter is difficult in Syria due to the scarcity of heating materials and poor shelter conditions. الشتاء صعب في سوريا لندرة مواد التدفئة، وضعف تجهيزات المنازل.
المسألة أكبر من مجرد أخطاء مطبعية
بالطبع جلّ من لا يخطئ. ومن المحتمل جدًا أن يكون استخدام for مع because حدث سهوًا بكل بساطة، ولكن إذا كان المدرس المتمرس الذي يضع الأسئلة في راحة بيته يقع في هذه الأخطاء البسيطة، كيف يمكن أن نلوم الطلاب الأغرار على أخطاءهم ونحاسبهم عليها وهم تحت ضغط الامتحان؟
ومن المفترض، علاوة على ذلك، أن هذه الأسئلة تتم مراجعتها من قبل رئيس القسم، ويوقع عليها عميد الكلية. فإذا وقع المدرس سهوًا في خطئ ما، هل فات هذا الخطأ المراجعين أيضًا؟
القضية هنا أن هذه الورقة ليس مقالة أو موضوع على الانترنت؛ هي المعايير التي نقيس ونقيم معرفة الطلاب على أساسها، وبالتالي يجب أن تكون صارمة في التزامها بهذه المعايير. لا يمكن أن نقيس معرفة الطلاب بعلامات الترقيم والقواعد ونحن نخطأ في أبسط مبادئها.
القضية الأخرى أن هذا الكم من الأخطاء، والضعف العام في ورقة الامتحان يثيران المخاوف بشأن كفاءة المعلم المسؤول عن تصميم الاختبار. أجريت بحثًا سريعًا عن مدرس المادة فوجدت أنه لم يكمل الدراسات العليا، ويعاني من ركاكة شديدة حتى في الإنجليزية المحكية. ونحن نعلم يقينًا أن الشمال السوري لا يخلو من الكفاءات وأصحاب الخبرة. فكيف تم تحديدًا اختيار هذا المدرس دونًا عن غيره رغم ضعف كفاءته الواضح؟!
أوصلني السؤال هنا وهناك إلى أن المدرس المعني عمل مع جامعة حلب في ظروف سيئة عندما فرت أغلب الكوادر إلى الخارج، أو أماكن أكثر أمنًا، وكان عمله في الغالب تطوعيًا، لذلك لا تتخلى الجامعة عنه، أو عن أمثاله من المدرسين الذين شاركوا في المراحل التأسيسية للجامعة.
ذلك جهد يحتسب للأستاذ ولا شك، ولكن يمكن أن نلوم الجامعة ذاتها هنا في أنها لا تسعى إلى تطوير قدرات كوادرها بقدر الولاء لجهودهم ومساهمتهم. ما نريده في النهاية أن يحصل الطلاب على التعليم الصحيح، وليس أي تعليم.
ما وجدته أيضًا خلال بحثي أن مدرس المادة من المناصرين المتحمسين للثورة، لذلك أكاد أجزم أنه ستتم مهاجمة هذه المقالة على أساس أنها طعن في مؤسسات الثورة ونخبها، وغيره من الحجج الجاهزة، ولكن أليس التعليم الخاطئ هو أكبر طعنة لمبادئ الثورة؟
المشكلة ليست في شخص أو أشخاص– يتطلب النهوض بجامعة حلب الحرة، ومعالجة قضايا التعليم والفساد مقاربة شاملة. عبر تحسين المناهج الدراسية، وتحسين تدريب المعلمين وتقييمهم، وتعزيز النزاهة الأكاديمية، وتنفيذ عمليات التوظيف الشفافة، يمكن للجامعة أن تخطو خطوات كبيرة نحو توفير تعليم جيد يزود الطلاب بالمهارات اللازمة لمساعيهم المستقبلية. من الضروري أن تتحمل المؤسسات التعليمية مسؤوليتها في تعزيز النمو الفكري والتفكير النقدي وحب التعلم، مع مكافحة الفساد وضمان الشفافية.
ما الممكن القيام به؟
ليس الهدف من هذه المقالة التسبب بطرد المدرس صاحب الامتحان، أو الشماتة بمستوى الجامعة. الهدف هو وضع الإصبع على مشكلات الجامعات الناشئة عبر مثال واضح، وإن كان بسيطًا.
أما لمعالجة هذه القضايا واستعادة سلامة التعليم في شمال سوريا، فيمكن تقديم عدة توصيات:
تعزيز تدريب المعلمين عبر تنفيذ برامج تدريب شاملة للمعلمين تركز على تعزيز المعرفة بالموضوع ومنهجيات التدريس وممارسات التقييم. يجب أن يكون المعلمون مجهزين بالمهارات اللازمة لتقديم تعليم عالي الجودة وإلهام الطلاب لتطوير شغف حقيقي بالتعلم. حيازة المدرس على شهادة في نفس الاختصاص لا تعني أنه مؤهل لتدريس جيل كامل من الطلاب وإغناء معرفتهم. تبدأ عملية التعليم العالي القيمة مع المدرسين، لا مع الطلاب مباشرة.
كما يجب مراجعة المناهج الدراسية للتأكد من توافقه مع المعايير الدولية ويشمل مزيجًا متوازنًا من التقدير الأدبي والعلمي والتفكير النقدي. غالبية المناهج التي مررها لي الطلاب هي ذاتها التي كانت تدرس في جامعات النظام على سوئها وقدمها. يجب أن تكون الجامعات في الشمال السوري فرصة لتجاوز الأخطاء والنقص لا تكراراها بحرفية.
ومن الضروري أن تشجع المناهج الطلاب على التعامل مع النصوص الأصلية وتحليل الأفكار المعقدة والتعبير عن أفكارهم بشكل متماسك. وتشجيع اتباع نهج شامل للتعليم يتجاوز التدريس الموجه نحو الامتحانات. تعزيز الأنشطة اللامنهجية والمشاريع البحثية والمشاركة المجتمعية لتعزيز الإبداع والتفكير النقدي ومهارات حل المشكلات بين الطلاب.
من الضروري أيضًا إنشاء آليات قوية لضمان الجودة لمراقبة وتقييم أداء المؤسسات التعليمية والمعلمين والطلاب. يمكن أن تساعد التقييمات المنتظمة ومراجعات الأقران والمراجعات الخارجية في تحديد مجالات التحسين وضمان الامتثال للمعايير التعليمية. لو كان هنالك نظام رقابة جودة صارم، لما وقعنا على هذا النموذج الامتحاني.
وبالطبع لا يمكن الحديث عن نظام جودة من دون تنفيذ عمليات توظيف شفافة وقائمة على الجدارة للمعلمين والموظفين الإداريين. يجب أن تركز معايير الاختيار على المؤهلات والخبرة والقدرات التعليمية بدلاً من الانتماءات الشخصية أو التوجهات السياسية.
تتطلب معالجة الفساد ورفع معايير التعليم جهدًا جماعيًا من جميع أصحاب المصلحة، بما في ذلك المؤسسات التعليمية والمعلمين والطلاب ومؤسسات الرقابة والمسائلة والمجتمع الأوسع.


