المشهد الصوتي لشارع مصري

مصر بلد ذو تراث ثقافي غني، ويعكس مشهدها الصوتي هذا التنوع. من أصوات الموسيقى التقليدية والأناشيد الدينية إلى إيقاعات المهرجانات وموسيقى البوب والهيب هوب الحديثة، فإن المشهد الصوتي في مصر هو انعكاس لتاريخها وثقافتها المعقدة.

خلال معظم القرن العشرين، سيطرت الموسيقى العربية التقليدية على صوت مصر بإيقاعاتها وألحانها وآلاتها المميزة. أصبح موسيقيون مثل أم كلثوم وعبد الحليم حافظ أيقونات وطنية، وعزفت موسيقاهم على الراديو وفي حفلات الزفاف والمناسبات الاجتماعية الأخرى في جميع أنحاء البلاد. لكن على مدى العقود القليلة الماضية، شهد الصوت في مصر تغيرات كبيرة، مما يعكس تحولات اجتماعية وثقافية أوسع.

لطالما كنت أبحث عن المزيد من التنويعات الموسيقية الأكثر أصالة وهو ما دعاني لوضع أنساق غير تقليدية ضمن مجوعتي الصوتية مثل القرآن، والموسيقى الاستعراضية والتصويرية، وكذلك الكتب الصوتية، وغير ذلك.

ثم اطلعت على نوع جديد من الصوتيات التي يمكن أن أضيفها إلى ألبومي هذا، وهو النوع الذي عبر عنه المنظر الموسيقى الكندي ريموند موراي شيفر Raymond Murray Schafer، وباختصار -وهنا أنا أنقل لكم من مقالة رافاييل– فإن “المشهد الصوتي هو البيئة الصوتية كما يدركها البشر ويحللونها. يتضمن هذا التحليل التسجيلات الميدانية، والملاحظة المكتوبة، بالإضافة لدراسة تاريخ صوتيات المكان في الماضي.” وهذا لعمري من أروع الأفكار التي اطلعت عليها وأكثرها ابتكارًا واحتمالاً لآفاق بعيدة قد تنفعني لإضافة سردية جديدة على عملي القصصي-الواقعي. وبالرغم من شاعرية الموضوع، إلى حد قد يستغرق فيه المرء في رومانسية مزعومة أو مزيفة، إلا أن المسألة أبعادًا واقعية لا تبتعد في الواقع أن أصلها الشاعري. حين جلست للعمل على وصف هذا المشهد وجدت أن المسألة قد تميل إلى العلمية البحتة بنفس القدر تقريبا مما تحمله من بذور أدبية شيقة.

كان ظهور أنواع وأنماط موسيقية جديدة أحد أهم التغييرات في المشهد الصوتي في مصر. في التسعينيات والعقد الأول من القرن الحادي والعشرين، ظهرت موجة جديدة من موسيقى البوب المصرية، مزجت الموسيقى العربية التقليدية بعناصر من موسيقى البوب الغربية والهيب هوب. أصبح فنانون مثل عمرو دياب وتامر حسني أسماء مألوفة، وأذيعت أغانيهم في محطات الإذاعة والتلفزيون والنوادي في جميع أنحاء البلاد.

عكست هذه الموجة الجديدة من موسيقى البوب أيضًا تغييرات اجتماعية وثقافية أوسع في مصر. مع ازدياد تحضر البلاد واتصالها بالاقتصاد العالمي، بدأ صوت مصر يعكس هذه التأثيرات العالمية. اليوم، يستمع الشباب في مصر إلى مجموعة واسعة من الموسيقى من جميع أنحاء العالم، من موسيقى الهيب هوب الأمريكية إلى موسيقى البوب الكورية.

في الوقت نفسه، لا تزال الأشكال التقليدية للموسيقى والصوت تلعب دورًا مهمًا في الثقافة المصرية. أصبحت هذه الأصوات التقليدية أكثر أهمية كوسيلة للحفاظ على التراث الثقافي في مصر في مواجهة التغيير الاجتماعي والثقافي السريع.

وقد لعبت الدولة أيضًا دورًا مهمًا في تشكيل المشهد الصوتي في مصر. في عهد عبد الناصر، على سبيل المثال، استخدمت الموسيقى كأداة لتعزيز القومية والقيم الاشتراكية، بينما في السنوات الأخيرة، استخدم الشباب الموسيقى للتعبير عن المعارضة وتحدي الوضع الراهن.

لكن صوت مصر لا يتعلق فقط بالموسيقى وأشكال الصوت التقليدية. تعد أصوات التحضر وحركة المرور والبناء أيضًا جزءًا مهمًا من المشهد الصوتي لمصر الحديثة. مع ازدياد تحضر البلاد، أصبحت أصوات المدينة أكثر بروزًا، مع ضجيج حركة المرور والبناء غالبًا ما يطغى على الأصوات التقليدية مثل الأذان.

فيما يلي محاولة لرسم مشهد صوتي للشارع المصري

أنابيب

-أنابييييب

هي الصرخة المميزة لبائع الأنابيب معلنا فيها عن نفسه، وعن وجوده، وعن بضاعته المتمثلة في أنابيب الغاز يستبدلها بالقديمة فهو بائع وحمّال وفني غاز أيضا. ومع الزحف العمراني للدولة الجديدة على العشوائيات تُزال بيوت، وفي أحسن الأحوال تجري عميلة إزالة للصور البيئية القديمة؛ حيث يتم تبليط الأرضيات / الطرقات في الشوارع الضيقة، وسفلتة نظيرتها بالشوارع الواسعة، عملية حفر متواصل تشوه الشارع بحجة تركيب وصلات مياه أو كهرباء أو إنترنت أو غاز. في الواقع، هذا الشق الأسود القبيح يقسم الشارع نصفين لأن الناس لم تدفع للمستغلين من العاملين في البلدية. نفس الواقع المأساوي بشكل هزلي والذي جسده فيلم خلي الدماغ صاحي. هناك إيجابيات مع ذلك، فمع دخول المرافق الجديدة تخلصنا تقريبا من بائع الأنابيب، ولكن ظاهرة الباعة الجائلين غير محصورة على شخصه هو. الإعلانات الصوتية في الحواري والأزقة تعادل نفس قوة الإعلانات البصرية على الطرق السريعة. هناك بائع الفول، والعرقسوس، والعسل، والبسبوسة، والجيلاتي، والعيش، وتقريبا كل الباعة عندنا يبيعون أشياء تُؤكل عدا أولئك الذين يقدمون خدمات من نوع مختلف، مثل جامعي الساكسونيا والروبابيكيا والزبالة. هناك أيضا أولئك الشباب الذين ازدحموا كثيرا وملئوا شوارعنا حتى لوثوها وضاقت علينا وعليهم بما يبيعونه من مخدرات جديدة ومبتكرة، ولكن تأتي صيحاتهم خفيضة مثل إلقاء تحية: “عايز حاجة يا سلم”. أو فقط الاكتفاء بمناداة أحدهم للإعلان عن وجودهم.

 حريق

أو حريقة، فهناك صيحات من نوع مختلف، هي الأسوأ والأكثر انتشارًا في شوارعنا، تحديدًا شوارع المرج، أو ما شابهها من عشوائيات القاهرة؛ المنشية، النهضة، إمبابة. ولفترة طويلة ظللت أمقت تلك الانعطافة التي يظهر بعدها بيتنا الباب والمصطبة محل البصر لأني كنت أتوقع كارثة تنتظرني عند قدومي. وهي توقعات لا تنبعث عن أي تشاؤمية، بل عن التجارب المتكررة لما يحدث في شارعنا، ونحن للأسف، سكنى هذه الشوارع مختنقين في بيوتها.

لا تخرج تلك الصيحات عن صراخ منذر بالويل مليء بالقذارات والتهديدات المحققة عن قريب يوجهها الصارخ (ويكونوا جماعة في العادة) إلى خصمه أو خصومه. وفي أحسن الأحوال هي صرخات استغاثة لأن هناك شخص يذبحه أحدهم، أو هناك منزل يحترق ربما بمن فيه، وفي أحسن الأحوال (مرة أخرى)، هو شخص داسته عربية، أو كان المنزل المحترق خاليًا من ناسه. أو هو صرخات أم ثكلى، أو طفل يتيم، أو زوجة مترملة على فقيدها الذي مات للتو؛ ولكن هذا غير شائع، فالموت (الطبيعي) يأتي صامتًا كأنه زائر خفيف على القلب.

لهذه الصيحات، أو الأحداث، توابع عديدة، مثل صوت تكة المطواة حين يفتحها قواد ما يقف على قارعة الطريق أو في زقاق مظلم، ويحتاج إلى أن يعلن عن حضوره وسطوته بفتح مطواته استعدادًا لأي غريم محتمل. هذه الفتحة شقت ظهري ذات مرة من القشعريرة- مجازًا. هناك أيضا أصوات القرآن المعلن عن عزاء قريب أو بعيد، وأن أحدهم مات ربما لم يعلن عن موته في شارعنا، أو فاتني الاستماع إلى مذياع الجامع القريب. وحين أستمع يصبح الوضع أسوأ فأنا دائما كنت أتخيل أن المتحدث سوف يعلن ذات مرة عن وفاة أبي (مثلاً) حتى قبل أن أعلم أنه مات، خاصة وأنه يقعد في الطابق السفلي لأنه غير قادر على الصعود. للأسف تحقق هذا التخوف بموت قريب لي عزيز على قلبي حين لم أدري إلا وأنا أستمع للإعلان الصوتي قادمًا من الجامع ورأيت تجمهرًا وتساءلت قبل أن أدرك عما يجري، فأخبرني قريب آخر بأن قريبنا توفي.

أبواق السيارات

من أبرز الأصوات في شوارع مصر الحديثة دوي أبواق السيارات المتواصل. تشتهر حركة المرور في القاهرة بالاكتظاظ، ويستخدم السائقون أبواقهم للإشارة إلى وجودهم وتأكيد حقهم في المرور. ويشير زياد فهمي في كتابه “أصوات الشوارع: الاستماع إلى الحياة اليومية في مصر الحديثة” إلى أن إطلاق الأبواق أصبح منتشرًا في كل مكان لدرجة أنه أصبح شكلاً من أشكال الاتصال في حد ذاته، مع أنماط مختلفة من التزمير تشير إلى رسائل مختلفة.

إن إطلاق أبواق السيارات هو سمة مميزة لشوارع مصر. يستخدم السائقون أبواقهم لا فقط للإشارة إلى وجودهم ولكن أيضًا للتواصل مع السائقين الآخرين. على سبيل المثال، يمكن أن يشير صوت تنبيه سريع إلى أن السائق يمر بسيارة أخرى، بينما قد يشير صوت تنبيه أطول إلى الإحباط أو الغضب.

توك توك

تحول صوت نداء التاكسي، إلى صوت نداء التوك توك.

العربات المتنقلة تعمل على تكوين وتقوية عصابات الشوارع وذلك لأنها أولا تجمع بين أبناء المهنة الواحدة (الكار) في مساحة واسعة، وهو ما يعد ثانيًا، وربما الأفضل خاصة في العربات التي تعمل بالوقود دونًا عن عربات الجرّ، لأن من يركب عربة يملك سطوة على حدود المكان تتجاوز سطوته على الشارع الذي يسكن فيه، وبحكم أنه يسكن فيه يمكنه التنمر على شخص غريب من شارع غير قريب، وحتى لو من شارع قريب ملاصق أو موازي أو متفرع من شارعه، طالما المرء أمام بيته يصبح أسدا ويعلوا صوته، وللمفارقة يكون صوته خافتًا جدًا لو كان بعيدًا عن مربع منطقته أو دائرة علاقته الممثلة في المزيد من السائقين الذين يقودون العربات وهم في العموم السائد قوادين. العربة تتيح له إمكانية الفرار بسرعة سواء كانت دراجة / عجلة، أو موتسيكل، تروسيكل، ميكروباص، أو سوزوكي، أو سيارة ملاكي وربما تاكسي، أو مركبة من نوع (توك توك). هذه تقريبا أخطر مركبة إلى جوار الدراجة النارية (موتسيكل) لأنها تتيح لصاحبها أن يفعل الفواعل دون ملاحقة جادة. يمكن لمن يركب دراجة أن يدهس أحدهم ويلوذ بالفرار، وقد تعرضت لذلك بنفسي. المشكلة أن في العربات، توك توك، وخاصة الميكروباس، وبشكل أخص السوزوكي قدرة على كتم الصرخات. وحتى في حدود المكان، أغلب المسجلين والبلطجية لا يوجد منهم من يخرج خارج حدود نفوذه إلا راكبا دراجة أو توك توك، وإلا مترجلاً ومع رجل أو خمسة رجال.

وبعيدًا عن كل هذا الفزع، نجد أنه في أحسن الأحوال يمكن أن يشكل التوك توك إزعاج صوتي خاصة حين يكون مقصودا من السائق أن يرج دماغك فوق أذنيك. لفظة توك توك في حد ذاته تظهر لي كأنها اقتباس من صوت الطرقات، لي صديق عزيز يحمل نفس الاسم، كما أنها تذكرني بمغامرات دق دق، وبالمؤثرات الصوتية في القصص المصورة. وربما هناك علاقة اسمية بين توك توك والتوك شو، ومنصة تيك توك التي امتلأت بالعديد من الأصوات.

ميم بأسلوب البوب آرت عن الحقارة

تيك توك

يعرض التيك توك تقريبًا كل شيء من دون حياء، حتى أن اليوتيوب صار يعرض أشياء كان مترفعًا عنها قبل ظهور هذا المجرم الذي أضاف تكرار جديد لنغمات الإشعارات على هاتفك الجوال. كلها ترن مصدعة الرأس. تحاول أن تعلن عن المزيد من (الجديد) الذي لم تره بعد على فيس بوك، تويتر، إنستغرام، سناب شات، وغيرها الكثير الذي يقتحم بيتك بشكل مزعج. فلا يوجد ما هو أقرب إليك من يدك. وبالطبع كان لذلك تأثير مباشر على الشارع والنطاق العام، حيث أصبح من الشائع سماع أجزاء من أغاني بعينها تتكرر حتى التخمة، ثم تختفي تمامًا مع اختفاء الترند. تحول مدى التركيز في الفن من ساعات، كما في أعمال أم كلثوم، إلا بضع ثوان غير ناضجة، تنتهي بنهاية الرقصة.

الشبيحة

يرجع الانتشار الكاسح لأنواع جديدة من الفنون في العالم العربي على مستويات الأدب والصورة والموسيقى إلى تفسير تقليدي للكبت الذي انفجر. فالفن هو وسيلة للتعبير عن ذواتنا. من ذلك يمكننا أن نفهم سبب انتشار الرعب في بلد مرعوب على حد قول أحمد خالد توفيق. أو انتشار نجمات التيك توك والانستغرام في ظل قمع تام لأي مواهب صاعدة سواء على المستوى الجسدي أو الموهبة الحقيقية حقًا. أيضًا نفهم انتشار أغاني المهرجانات التي نسمعها من سماعات الصب، أو داخل العربات، أو في الأفراح، أو من أجهزتنا المحمولة. لم تنتشر فقط لكونها صاخبة؛ ونحن نحب الصخب لأنه الصورة الأكثر بدائية والأقل تكلفة لمظاهر الفرح، ولكنها تغذينا أيضًا بمشاعر من الثقة وحب الذات والقدرة على الفعل، في ظل عالم يحكمه العنف والعنف المشدد داخل أروقة الشارع المصري القديم. يصبح العنف في صورة مقلوبة للحال الطبيعي مدعاة للتباهي كأننا رجعنا إلى عصور انقضت من الفتوة المصرية أو فتوة عرب البادية أو حتى الغرب الأمريكي. لا يؤخذ العنف بوصفه نوع من البطولة إلا في ظل بيئة أكثر بدائية أو أكثر عدائية. تستمع إلى الكلمات فتحسب كل واحد في نفسه جون ويك المصري، وعلى قول توفيق الدقن: “الناس كلها بقت فتوات أومال مين اللي هينضرب؟”

أصوات البناء

تكاد أصوات آلات الحفر، والمعدات الثقيلة، وأصوات أعمال البناء لا تنقطع في شوارع مصر. مع استمرار البلاد في التطور والتوسع، يمكن سماع صوت البناء في المدن الرئيسية والبلدات الصغيرة. تذكرنا هذه الأصوات بالوتيرة السريعة للتغيير في مصر والتحديات التي تأتي مع التحديث.

رمضان

في رمضان تعود أصوات نشتاق إليها من العام للعام، أكثر بائع خفيف على القلب هو المسحراتي الذي يبيعنا صيحاته بعد منتصف الليل كي يوقظنا للسحور. هناك تكبيرات العيد، بل العيدين والتي تصدح في شوارع القاهرة المعروفة تاريخيًا بمدينة الألف مئذنة. هناك أصوات أخرى لأطفال تلعب دون أن يزعق فيهم أحد. هناك أصوات مفرقعات قوية ولكن حمدا لله، ليست قنابل مولوتوف وليست شماريخ ولا أعيرة نارية. هذه المرة هي مفرقعات لكي يسعد الجميع بها.

على الرغم من حيوية شوارع مصر الحديثة، هناك أوقات من النهار، مثل الصباح الباكر وفي وقت متأخر من الليل، تكون فيها الشوارع هادئة نسبيًا وسلمية. لكن، كما يلاحظ فهمي أيضًا، إن أكثر لحظات السكون إثارة للإعجاب هي التي تتشكل وسط الصخب وكأن المدينة تعارك من أجل بعض الروحية والهدوء. تتكرر هذه اللحظات يوميًا عندما يرتفع صوت الأذان ويبدو أن المدينة بأكملها تهدأ وتصمت لتستمع للأذان، مما يخلق لحظة ملهمة من الهدوء وسط الفوضى.

كتبها: رايفين فرجاني

تحرير: دريد الغزال