في مقال “جامعات محطمة” لمحي الدين عمورة يناقش الإحصائيات التي خرج بها موقع ويب ماتركس عن تدني مستوى الجامعات السورية. ليس كأن أحدهم احتاج لإحصائية ليتأكد من تدهور مستوى التعليم العالي في سوريا، ولكن كانت نتيجة ويب ماتركس كتوثيق بالأرقام لا تقدر أن تتملص منه الجامعات السورية بدعواها المستمرة أنها مميزة على مستوى المنطقة، ومن هنا، كما رأينا في مقالة عمورة، بدأ مسؤولو هذه الجامعات بتبرير موقفهم بعدم توفر الميزانية وقدم البنية التحتية و”الحصار الجائر” وهلم جرَّ. لكن لا أحد منهم على ما يبدو لديه نظرة عميقة لسبب هذا التراجع… ولا يبدو أن أحدًا منهم حتى حاول الاطلاع على منهجية التقييم التي اتبعها موقع ويب ماتركس لفهم محددات تدني مستوى كل جامعة، وسارعوا عوضًا عن ذلك لتبرير نتائجهم تمامًا كما يفعل طالب يعلم أنه لم يدرس ولم يقدم جيدًا في الامتحان، ولما أتت نتيجته بالرسوب كما يتوقع سارع بالتبرير أن الامتحان كان صعبًا والدكتور لا يرحم، وكل المبررات الممكنة عدا أنه لم يٌحضر جيدًا.
إن محاولة الهيئات التعليمية تبرير تراجع مستوى الجامعات بسبب الوضع خلال العشر سنوات الماضية وتبعاته، يتجاهل أن وضع الجامعات كان مترديًا من قبل، ولكن ازداد سوءًا فقط.
تقييم ويب ماتركس ليس بالمقياس العلمي الدقيق، فهو يعتمد على المواقع الإلكترونية للجامعات لقياس مدى تأثيرها- وسيلة تشبه أدوات Ahrefs و Similarweb لقياس شعبية المواقع، لكن بدل أن يقيس الروابط وشعبية المواقع بشكل عام يكتفي بمواقع الجامعات لخدمة هدفه. في تقييمات أكثر حرفية، ومعترف بها بشكل أوسع ضمن نطاق التعليم العالي مثل دليل فيسك للجامعات و تقييم Times Higher Education، هنالك 16 مؤشر للتقييم حسب هكذا مؤسسة يمكن تصنيفها في خمس فئات: التدريس (بيئة التعلم)؛ البحث (الحجم والدخل والسمعة)؛ الاستشهادات (تأثير البحث)؛ المجتمع (نقل المعرفة وتأثيرها) والتوقعات الدولية (الموظفون والطلاب والبحث).
وإذا طبقنا هذه المؤشرات الأمور على الجامعات نستطيع إرجاع أسباب تدني مستوى التعليم العالي في سوريا، أو أي من البلدان العربية، لثلاث أسباب رئيسية:
1. الوضع الاقتصادي
وليس المقصود هنا الوضع الاقتصادي الذي يؤثر على الطلاب كما أوردت مقالة عمورة عبر عدة أمثلة لطلاب يطرون للعمل لتوفير لقمة العيش أثناء دراستهم، فهذا الأمر معتاد في كل مكان، حتى في الدول المُرفَهة، حيث يعمل الطلاب كمتدربين بلا أجر -غالبًا- أثناء دراستهم الجامعية لتحصيل الخبرة العملية ودخول سوق العمل، وحتى في دول مثل الهند حيث يواجه الطلاب ظروفًا مماثلة تطرهم للعمل أثناء الدراسة لكن ذلك لم يمنع حصول الجامعات الهندية على تقييم جيد ما يزال يتقدم ويثير الإعجاب عالميًا. بل إن العديد من المختصين يدعون الجامعيين للعمل، حتى لو لم يكونوا بحاجة لذلك، وذلك لأن الجامعة تعطيهم معرفة نظرية غالبًا ولا تطبق على كثير من الحالات في الحياة العملية وسيُصدمون بالواقع إذا خرجوا لسوق العمل مباشرة.
الوضع الاقتصادي المقصود هو الوضع الخاص بالجامعات نفسها، وخصوصًا الهيئة التدريسية. إن الأكاديمية والبحث الأكاديمي هما -ربما- رفاهية.
إذا كان راتب الدكتور الجامعي لا يكفي لشراء مستلزمات منزله فلن يجد الوقت لتحضير منهاج يواكب التطور ويتفاعل مع الطلاب، ومن باب أولى لن يجد الرفاهية للجلوس وقراءة الكتب وترجمة المقالات والبحث حول مواضيع جديدة. ومن هنا تجد أن غالبية الكادر يعتبر التدريس في الجامعة كهامش لدخل ثابت فقط، بينما يعمل في وظائف أخرى أو حتى التدريس في جامعات أخرى، وهذا ما كان يفعله الدكاترة حتى قبل الثورة حيث كان ثلث الدكاترة من جامعة حلب، مثلاً، يعملون أو هم مساهمون مباشرون في جامعة إيبلا الخاصة، بينما امتلك البقية أعمال خاصة مثل مكتب محاسبة لدكتور في هذا الاختصاص أو مكتب تصميم معماري لدكتور مهندس وغيره.
بينما يقضي دكاترة الجامعات التي تحتل المراتب العليا في أي تقييم وقتهم في الكتابة للمجلات (من الملاحظ أن الدوريات الأكاديمية تصر أن يذكر اسم الجامعة مع اسم الكاتب عند الاقتباس، مما يزيد بالطبع من ظهور الجامعة وبالتالي تفوق سمعتها) وإجراء الأبحاث، والمتابعة المباشرة للطلاب، يقضي الدكتور السوري وقته في محاولة توفير الوقود للسيارة أو حتى في المواصلات العامة، وتأمين الماء والخبز، وانتظار عودة الكهرباء أو الانترنت لإتمام قراءة مقالة قرر ذات أمسية أن يوسع معارفه ويطلع على آخر التطورات في مجاله، وينتهي بأن ينسى الموضوع تمامًا لأن الكهرباء لن تأتي.
يظهر تأثير الوضع الاقتصادي أيضًا على نزاهة الجامعة، حيث يذهب بعض الدكاترة لتبني طرق مختصرة لتأمين لقمة العيش وأخذ رشاوي من الطلاب للنجاح في مواده، أو في أحسن الأحوال إجبارهم على حضور دورات خاصة عنده لرفع المادة.
بالطبع عندما نقول الوضع الاقتصادي للجامعات فليس دور الجامعات سلبيًا دائمًا، بمعنى أنها تنتظر الحكومة لتخصيص ميزانية مناسبة، بل تتحمل جزأ من المسؤولية عبر عدة قنوات، مثل البيروقراطية التي لا جدوى منها، وهي مشكلة في كل مؤسسات النظام. تهدر الجامعات السورية أموالًا ضخمة على معاملات لا داعي لها في شؤون الطلاب إلى الفرق الحزبية، وما يحلق ذلك من الحاجة لفتح وظائف لا ضرورة لها في الغالب، يقبض المحسوبون الذين استلموها معظم وقتهم لا يقدمون أي قيمة مضافة للعملية التعليمية، وأكاد أجزم أنه لو أحصينا المصاريف الإدارية في الجامعات السورية لتجاوزت 40 في المئة من ميزانية الجامعة ككل (وكلن ليس هنالك شفافية لإجراء مثل هذه الإحصائية).
وللجامعات الكثير من الموارد التي لا تستغلها مثل موارد الأبحاث كما سنناقش تاليًا وحقوق النشر، وولاء الطلاب. لو أن الجامعات العربية تستثمر فعلاً في طلابها وتوفر لهم الدعم عوضًا عن معاملتهم كمجندي قطعة عسكرية في انتظار شهادة التخرج لا غير، لرد هؤلاء الطلاب الدعم لجامعاتهم عندما يصبحون في مراكز مهمة. وهذه طريقة بقاء الجامعات الأمريكية المرموقة التي لا يصلها في الحقيقة أي دعم حكومي.
حسب ديفيد فايس مؤلف كتاب “قصة غوغل” فإن جامعة ستانفورد كانت الحاضنة لبعض أنجح الشراكات التقنية الناشئة من هيوليت-باكارد HP إلى صن لأجهزة الكمبيوتر الدقيقة. وسهلت ستانفورد لطلابها في برنامج الدكتوراه العمل على مشاريع تجارية محتملة بالاستفادة من موارد الجامعة، وبدل ادعاء مكتب ترخيص التقنية لحقه في كل ما ينتج على حرم الجامعة، ساعد المكتب في الدفع وتغطية مصاريف براءات الاختراع وكفالة مشاريع الطلاب وغيره مقابل الحصول على حصة في الشركات المنشئة.
إن السماح للجماعة بامتلاك حصص في الشركات والحصول على عوائد من هذا الاستثمار جعل ستانفورد تحافظ على بعض أفضل أساتذتها. يصبح البعض ثريًا، وتبقى لديه الفرصة للاستمتاع بالحرم الأخضر الجميل، ومحادثة العقول اللامعة، وحرية استكشاف أفكار عملية مربحة، وبالتالي ليس هنالك سبب يدفع الأساتذة لترك ستانفورد.
عمل لاري بيج وسيرجي براين على درجة الدكتوراه في مبنى يدعى ” ويليم غيتس لعلوم الحاسب” حيث منح رئيس مايكروسوفت 6 ملايين دولار لبنائه رغم أنه لم يلتحق بستانفورد، إلا أن مايكروسوفت وظفت العديد من خريجيها، وكان غيتس يأمل عبر هذه البادرة بجذب أفضل العقول في المستقبل. انطلق لاري وسيرجي لإطلاق غوغل وبقية حصة جامعة ستانفورد من الشكرة حتى 2005 عندما باعت أسهمها مقابل 336 مليون دولار أمريكي.
في ذات الوقت يطلب من الكادر التدريسي في الجامعات العربية الدفع مقابل نشر أبحاثهم، فيما لا يحتمل الكثير منهم نفقاتهم الشخصية. وتطلب الجامعات من الطلاب حمل تكاليف مشاريع تخرج والدراسات عليا على عاتقهم، وحتى ثمن المواد المخبرية في كلية الطب وطب الأسنان، لأن الجامعة لا تستطيع تحمل هذه التكاليف.
وهذا ما لا تدركه الحكومات العربية ولا جامعاتها على ما يبدو. إن الإنفاق على التعليم الجيد ليس نفقات ضائعة، ولا التزامات مالية مرهقة. إن الاستثمار في الطلاب هو أكبر مصدر دخل للجامعة والبلد كله.

2. المؤسسات البحثية
المؤسسات البحثية غائبة عن الجامعات العربية أو أن دورها ثانوي. أعلم أنها موجودة نظريًا، ولكن ليس لها تأثير ملموس أو إنتاج مهم بتاتًا.
إن المنشورات البحثية التي تُصدرها الجامعات العربية هي مجرد وسيلة للحصول على منحة مالية بالنسبة للكادر التدريسي، أو متطلب إجباري لطلبة الدراسات العليا. ولا أحد يهتم حقيقة بتقديم أبحاث فارقة- ولا رقابة تدقق أساسًا. هو مجرد عمل روتيني. لذلك نقع كثيرًا على منشورات منقولة بكل بجاحة، أو أبحاث سلم الدكتور ترجمتها لطلابه ثم نشرها باسمه دون تدقيق وراء الطلاب.
نعم هنالك ضعف المالي لدى الجامعات العربية، لكن إذا نظرنا في اختصاصات لا تطلب أبحاثها رأس مال كبير مثل علم الاجتماع والاقتصاد والآداب نجد تدني في مستوى الأبحاث بقدر الهندسة والعلوم. أذكر تمامًا قبل اثني عشر عامًا عندما ناقش طالب رسالة ماجستيره عن أثر التسويق المرتبط بكرة القدم على العالمة التجارية، وكان كل بحثه مبينة على استبيان نشره على مئة شخص- رُفض منهم عشرة أيضًا. في النهاية نجح الطالب في المناقشة وحصل على درجة الماجستير بمعدل يفوق الثمانين بالمئة. في أي جامعة عالمية لم يكن هكذا بحث سينجح، ولن يُأخذ على محمل الجد من الأساس.
غالبية رسائل الدراسات العليا اليوم مبنية على استبيانات لا وزن لها إحصائيًا، وبحث سريع على الانترنت. هي مجرد حلقة يجب المرور عبرها للحصول على شهادة أخرى- هنالك عدم اكتراث ولا مبالة عامة حول أهمية الأبحاث الجادة مرده أن النظام السوري لا يبدي أي اهتمام بالمراكز البحثية وتطويرها، مالم تكن تصب في مصلحة قضايا أهم بالنسبة له مثل الصناعات العسكرية وهنا نجد ميزانيات مهولة، تضيع طبعًا في المحسوبيات والفساد الوظيفي.
صارت المراكز البحثية للجامعات المتقدمة في التقييم مؤسسات قائمة بذاتها وقادرة على تمويل نفسها عبر براءات الاختراع، بيع الدراسات، وحتى عبر الدعم الحكومي الضخم لمشاريع يُرى أنها حيوية لنهضة الأمة. وقد يبدو اللحاق بوكب هكذا مؤسسات مستحيلاً، ولكن من الواجب البدء بخطوة ما حتى لو كنت خطوة صغيرة وخجولة، فمعظم مؤسسات النخبة العالمية بدأت ككليات تعليمية صغيرة، ومع مرور الوقت ومع الاستقرار المالي والقيادة المدروسة، نمت لتصبح المؤسسات يُتطلع إليها.
ترتفع اليوم العديد من الأصوات التي تنادي بتوفير التعليم للكل عبر تخفيض تكلفته، كما مشروع جيل بايدن الواعد الذي طرحته أمام اليونسكو عام 2009، والداعي لتبني تجربة الجامعات المجتمعية. إن قدرة الجامعات على النهوض بقدراتها البحثية ليست مبنية على البنية التحتية كما يتذرع المسؤولون دائًما، وإن كانت الأخيرة تخدم، لكن الأهم هو النية لفعل شيء صحيح ومفيد، وهنا تأتي المسألة الأهم…
3. الحرية
بالتأكيد لا يبدي الجميع عدم اكتراث بالأبحاث، وكما أي مجتمع هنالك الكثير من الشباب الطموحين الذين يتطلعون لإحداث فرق وتقديم مساهمتهم للمعرفة البشرية، لكن بماذا يواجه الجامعي العربي؟
أثناء دراستي للماجستير في الجامعة تقدم زميلي بطلب مشروع رسالة ماجستير عن تطبيق يسهل وصول أقرب سيارة إسعاف للمرضى المحتاجين لرعاية طارئة. وقد تجاوز هذا الطالب “الحصار المفروض على سوريا” وتمكن من إضافة تطبيقه على غوغل بلاي الذي يمنع السوريين من استخدامه، لكنه فوجئ بعد شهرين بأنه مشروع تخرجه رُفض “أمنيًا” لأنه يتطلب استخدام الـ GPS. غني عن القول أن الطالب ترك الماجستير وهاجر للخارج حيث أتم دراسته ولم يعد.
لن تصدق المبررات التي يأتي حسبها الرفض الأمني لمشاريع الطلاب، ليس فقط بسبب الـ GPS ولكن بسبب أن القضية الفلانية في الاقتصاد أمن قومي، والمؤلفات المرجعية هي لشخص معادٍ للدولة، أو المواد الكيميائية المطلوب شراءها قد تُستخدم في صناعة المتفجرات… أو مهما بدا خطيرًا من وجهة ضابط الأمن السياسي، الذي وصل لمنصبه عن طريق الواسطة لا العلم، ويقع بين يديه مستقبل المنظومة التعليمية بأكملها. هذا بالطبع عدا أن القائمة الطويلة للمحرمات التي لا يجب مناقشتها في العلوم السياسية، والمواقع والمصادر التي لا يمكن الوصول إليها بسبب الحظر السياسي الداخلي.
تعتمد صحة التعليم العالي على الطلاب والكادر المطلعين الذين يتخذون خيارات مدفوعة بالمعرفة والتفكير النقدي وتحليل المعلومات وتحديد ما هو حقيقي وملائم في عالمنا. كيف سيقدم المحاضر محتوى علمي يواكب التطور وهو يخشى أن يتم تنبيه بأنه يخرج عن الإطار التعليمي دون موافقة؟ وكيف سيدمج الطلاب في حوارات بناءة تزيد من فهمهم للمحتوى المطروح عوضًا عن استقباله فقط وهو يخاف أن يتوفه أحد الطلاب بكلام سياسي أو أن يكتب فيه أحد الطلاب تقريرًا للجهات الأمنية؟ وكيف يمكن للطلاب أن يعبر عن رأيه بالمحتوى الذي يقدمه الكادر التدريسي أو ينتقد منهج الجامعة ككل دون أن يعتبر مساسًا بأمن الدولة ونيلاً من هيبتها؟ وكيف للباحث أن يختار أي موضوع يتوق لسبر أغواره دون أن يتوقع الرفض أو يخشى أن تصل نتائج أبحاثه لنهايات تؤخذ عليه؟
من البيانات والتقارير التي تعدها الرابطة الأمريكية لأساتذة الجامعات على مدار المئة عام المنصرمة، يمكن تلخيص المبادئ الأساسية التالية حول الحرية الأكاديمية:
1. تعني الحرية الأكاديمية أنه يمكن لكل من أعضاء هيئة التدريس والطلاب الدخول في نقاش فكري دون خوف من الرقابة أو الانتقام.
2. تؤسس الحرية الأكاديمية لحق عضو هيئة التدريس في تقرير فلسفته التربوية والتزاماته الفكرية. يحافظ على النزاهة الفكرية للنظام التعليمي وبالتالي يخدم الصالح العام.
3. تعني الحرية الأكاديمية في التدريس أنه يمكن لكل من أعضاء هيئة التدريس والطلاب إجراء مقارنات ونقد للمواد التي تُدرس في مقرر ما وأي مجال من مجالات المعرفة الإنسانية أو فترة تاريخية.
4. تمنح الحرية الأكاديمية كلاً من الطلاب وأعضاء هيئة التدريس الحق في التعبير عن آرائهم – بالقول والكتابة ومن خلال الاتصالات الإلكترونية، داخل وخارج الحرم الجامعي على حد سواء – دون خوف من العقاب، ما لم يكن أسلوب التعبير يضر بشكل كبير بحقوق الآخرين أو، في حالة أعضاء هيئة التدريس، تظهر هذه الآراء أنهم جاهلون مهنيًا أو غير كفؤين أو غير أمناء فيما يتعلق بانضباطهم أو مجالات خبرتهم.
5. تمنح الحرية الأكاديمية كلاً من الطلاب وأعضاء هيئة التدريس الحق في الدراسة وإجراء البحوث حول الموضوعات التي يختارونها واستخلاص النتائج التي يجدونها متوافقة مع أبحاثهم.
قليل من هذه المبادئ يأخذ على محمل الجد على مستوى الجامعات العربية عمومًا. وحتى انتقاد بعض المحاضرين أو رؤساء الجامعات على مواقع التواصل الاجتماعي أدى لملاحقة الطلاب أمنيًا فما بالك عند انتقاد أو حتى مناقشة ما يعتبر من أمن الدولة.
تنعكس الحرية أيضًا في مدى استقلال الجامعة. الدول الديمقراطية الناجحة هي دول مؤسسات؛ هنالك إطار عام للعمل واتعاون ولكن لك مؤسس استقلاليتها. أما الجامعات السورية فلا تمتلك أي جامعة استقلاليتها ولا حتى تقرير أبسط الأمور مثل تاريخ الامتحانات.
تزدهر الجامعات ذات المستوى العالمي في بيئة تعزز التنافسية والبحث العلمي غير المقيد والتفكير النقدي والابتكار والإبداع. المؤسسات التي تتمتع باستقلالية كاملة هنا أكثر مرونة، لأنها غير ملزمة ببيروقراطيات عقيمة ومعايير مفروضة من الخارج. نتيجة لذلك، يمكنها إدارة مواردهم بكفاءة والاستجابة بسرعة وفاعلية لمتطلبات السوق العالمية سريعة التغير، وللعلم المتطور بشكل مطرد.
استنتاج
لا يمكن عزل الوضع الاقتصادي للجامعات والحرية الأكاديمية عن وضعهما العام في البلد. وأي محاولات للقيام بمستوى الجامعات دون إيلاء الأهمية لهذين العاملين، ومن بعدهما للأبحاث، لن يأتي بأي تغيير ملموس، ويمكن لعميد الكلية الفلانية ترسيب أكثر من نصف الطلاب ليظهر مدى حزم الجامعة لكنه لن يغير شيئًا في تصنيفها طالما أن جوهر المشكلة يبقى بعيدًا عن الحل- وحتى المناقشة.
لا أحد من الذين اقتبس لهم عمورة في مقالته تجرأ على ذكر الحرية كسبب لتراجع مستوى الجامعات، وطالما أنهم باقون على ذلك فلن تعدو محاولاتهم عن خدش لسطح المشكلة.
هنالك بالتأكيد أسباب أخرى، مثل تطوير المناهج المهترئة لتواكب التقدم العلمي والتكنلوجي أكثر؛ فطلاب المعلوماتية مثلاً ما زالوا يدرسون مناهج تعتمد على نظام ويندوز 98، وطلاب الاتصالات يعملون على مقاسم الهاتف من العصر السوفيتي وغيره.
وهنالك حاجة لتطوير التعليم وتغيير صورة الطلاب والمجتمع حتى يصبح التعليم يطلب لذاته وليس للشهادة، وبالتالي تصبح العملية التعليمة ككل مجرد حلقات يجب القفز من خلالها بأي وسيلة للحصول على الشهادة في النهاية، وهذا ما يؤدي لظهور الملخصات وأسئلة الدورات وأي وسيلة فقط للنجاح- لأن المطلوب هو الشهادة وليس المعرفة، ثم نتكشف في النهاية أن هذه الشهادة لم تعطينا أي شيء يفيدنا في الحياة العملية وسوق العمل.
كل هذه الأمور صحيحة ومن الضروري حلها، لكن لا يمكن التقدم أي خطوة قبل حل معضلتي الوضع الاقتصادي والحرية، وقد خلص تقرير أعده جميل سلمي للبنك الدولي عام 2009 لنتائج مشابهة. مثلاً، لن يأتي دكتور من الخارج للتدريس في جامعة ما والراتب المعروض لا يكفي لشراء الحاجيات، وفوق ذلك يخشى من الملاحقة الأمنية عند كل زاوية، بل إن الكادر الموجود داخل البلد سيبدأ بالفرار خارجه، ومن يبقا -لقلة الفرص لا بسبب قناعته- سيكون همه كل شيء إلا النهوض بالسوية التعليمية، وبالتالي يصبح تكوين كادر تدريسي يدعم موقع الجامعة في التصنيفات العالمية أمرًا بعيد المنال. ولن يتجرأ أحد على القيام بأبحاث مهمة، ولكن مكلفة، إذا كان سيدفع كل شيء من جيبه، ثم ستطالب به الجامعة كونه تم على حرمها.


