عندما اعتُقل ابنها الأكبر خالد البالغ من العمر 29 عامًا، من منزله في حمص مغطى الرأس وفاقدًا للوعي، لم تره. أخبرها الجيران بما جرى بعد 3 أيام عندما لم تسمع أخبارًا منه وسافرت من ريف حلب إلى حمص لتطمئن عليه. دفعه الرجال الذين عذبوه وضربوه إلى سيارة لم يحددها الجيران. ثم اختفى تمامًا.
وصفت حليمة نفسها، بفخر، بأنها أما قبل كل شيء. كان خالد شرطي، ودرس القانون في الجامعة. أما حلمية نفسها فلم تنهي دراستها الابتدائية لأن والديها كانا فقراء. تعللت بذلك بابتسامة، لكن الحقيقة كانت ان دراسة الفتاة في الريف ليست أمرًا محببًا. على الرغم من أنها كانت شغوفة بالأحاديث والأسئلة حول العالم، إلا أن والدتها جعلتها تتعلم الخياطة والطبخ والعناية بالأغنام، أشياء مناسبة للفتيات. في سن السادسة عشرة كانت متزوجة. عندما أحضر زوجها التلفاز إلى المنزل شاهدت كم العالم كبير، وتمنت لو تستطيع رؤيته في الحقيقة، وتمنت فوق كل شيء، لو أتمت دراستها وأصبحت طبيبة أو مهندسة. وبقي سؤال يحيرها حتى آخر أيامها؛ لماذا يمتلك البعض خيار أن يصبحوا ما يريدون، ويسافروا أينما أحبوا، فيما لا يملك البعض الآخر تقرير من سيمضي معه حياته، هل الحياة عادلة هكذا؟
ثم تبدأ بالاستغفار والتعوذ من وساوس الشيطان.
تعلمت حليمة من الأولاد. أوضح لها أكرم كيف تقرأ القرآن، والفواتير، والمجلات في عيادة الطبيب. علمها أيضًا كيفية الاستماع إلى الراديو بجدية. عندما اختطف خالد طلبت من أكرم وعبد الله وخديجة مغادرة البلاد، والآن أصبح الدار العربي الذي ملأه أولادها وأحفادها خاليًا.
عندما اختفى خالد لم تجلس وتبكي. كان والده من بكى بحرقة، بينما ذهبت غاضبة، بلا خوف، إلى المشارح والمستشفيات ودقت أبواب مراكز الشرطة للبحث عن ابنها. بلا نتيجة. كتبت هي وزوجها وقدمت التماسات أمر إحضار. لم يرد أحد. تجاهلها المسؤولون، وأخبرها المشايخ أن تصلي. جلست لساعات بمفردها في ممر وزارة الداخلية، حيث لم يلاحظها أحد. تحدثت في الغالب إلى النساء اللاتي قابلتهن مثلها، أمهات المفقودين، بوجوههن المأساوية. زارت قادة الفصائل، وشكت همومها للقضاة الشرعيين، وملأت مئات الإحصائيات للمنظمات المدنية.
شيئًا فشيئًا، تخلت عن الأمل. سمعت قصصًا من معتقلين رووا أنهم رأوا شبيهًا بابنها، لكن الشهادات كانت متناقضة، وأشبه بقصص مطاردة شبح حيث يظهر المعني في أكثر من مكان في نفس الوقت- مع كثرة القصص ومحاولة جمع تصور كامل لابنها تحول خالد إلى ما يشبه الحلم، ولم تعد تذكره إلى وهو صغير يلعب معها أو يحاول تعليمها القراءة بعد المدرسة.
في كل مرة سُربت قائمة بأسماء المفرج عنهم أو الأسرى الذين تم تبادلهم بين أطراف النزاع، سارعت إلى محل جارها حيث يلعب الأطفال على الكمبيوتر، وطلبت من ابن جارتها أين يجد القائمة لتبحث عن اسم ابنها بينهم، في تلك المرحلة كانت تتمنى أن تعرف إن توفي فقط، بدلاً من عدم اليقين هذا.
أمضت أيامها الأخير في العناية بزوجها. وتمنت لو امتلكت ثمن هاتف ذكي تستطيع من خلاله إجراء مكالمة فيديو مع أولادها في المغترب. عندما جمعت المال، لم تعد تستطيع الرؤية بعينيها جيدًا، أخبرت أولادها أن لا داعي للقلق فذلك من الآثار الحتمية للشيخوخة. أخفت عنهم أنه نتيجة بكاءها المستمر ليلاً على خالد.
انتقلت حليمة إلى رحمة ربها يوم 16-04-2023 دون أن تحظى بفرصة أخيرة لاحتضان ابنها، كما الكثيرات من أمهات المعتقلين والمغيبين.
إن أحببتم تخليد ذكرى أحباءكم بنعوة كهذه راسلونا على أحد معرافاتنا لنكتب عنهم مجانًا، أو ننشر كتاباتكم

