شاع مصطلح “المشهد الصوتي” من قبل المؤلف الموسيقي ورائد الدراسات الصوتية ر. موري شافر. بإيجاز، فإن المشهد الصوتي هو البيئة الصوتية كما يدركها البشر ويحللونها. يتضمن هذا التحليل التسجيلات الميدانية، والملاحظة المكتوبة، بالإضافة لدراسة تاريخ صوتيات المكان في الماضي.
يصف شافر ثلاثة خصائص للمشهد الصوتي: النوتات المفتاحية، والإشارات، والعلامات الصوتية. النوتات المفتاحية هي أصوات الخلفية التي تحدد الهوية الصوتية الفريدة للمكان، مثل الطيور المحلية النادرة، أو صوت البحر، أو رياح الجبال. الإشارات هي أصوات المقدمة التي تهدف إلى جذب الانتباه، مثل صفارات الإنذار والأبواق وما إلى ذلك. أما العلامات الصوتية فهي التي يتميز بها المجتمع، وتجعل “الحياة الصوتية للمجتمع فريدة”.
فكرت بكلام ’شافر وأنا جالس على الشرفة أستمع للأصوات المختلفة من الشارع. أغمضت عيني، وحاولت استخلاص العلامات الصوتية المميزة للشارع السوري وكيف تغير كلٌ منها عبر السنوات الماضية، فصارت أصوات تخطف المرء في حنينٍ للماضي، بينما تبعث أخرى الرعب في النفس. وهذا بعض ما توصلت إليه:
بائع الغاز:
هل تعلم كم هو مزعج أن تجلس بالقرب من طفل يطرق على قدر معدني بملعقة؟ تخيل إذًا صوت سيارة تمر بالشارع على مهل وكأنها على درب اللانهائية بين النجوم ويقرع صبي على جرة غاز معدنية بمفتاح ربط 17.
قبل الحرب في سوريا، جالت سيارة الغاز الشوارع الضيقة خلال مجمل ساعات النهار. لا تتوقع أن أكثر وقت مزعج هو الصباح الباكر، بل عندما ترجع من عملك منهكًا، وتقرر أخذ قيلولة في عصر يوم صيفي قائظ. تفتح النوافذ على مصارعها لعل نسمة هواء تدخل المنزل، وفقط عندما يبدأ وعيك يتركك لترتاح، يأتي صوت بائع الغاز وهو يطرق على الجرات بكل حماس.
اكتشف باعة الغاز أنه في حال القدوم باكرًا فسيكون الرجال في العمل، وعندها ستناديهم النساء من الشرفات، وسيتطلب منهم الأمر حمل الجرة للمنزل، والتعامل مع الأطفال، والمجادلة مع الزوجة التي أخبرها زوجها أن سعر الجرة 140 ليرة وليس 150، وفي كثير من الأحيان تركيب الجرة مقابل بقشيش زهيد أو بدونه. من هنا تشعر أنهم كانوا يتقصدون التجول بين الحارات وقت عودة الموظفين من عملهم.
على كلٍّ، بعد مقطع ساخر من مسلسل مرايا، ومع التوجه العصري بداية القرن، توقف باعة الغاز عن القرقعة على الجرار وصاروا يستخدمون موسيقا فيروز، أو أناشيد طيور الجنة، أو مقطع مشوه من السمفونية 40 لموزارت.
مع بداية الثورة بدأ الغاز بالانقطاع، وصرنا نبحث عن بدائل أخرى، من الطبخ على الموقد “الليزري” عندما تكون الكهرباء أو “الأمبيرات” متوفرة، إلى أساليب قديمة أخبرنا عنها أجدادنا في سياق الوعظ عن قسوة الحياة في ذلك الوقت، مثل موقد الكاز، أو صوبة الحطب شتاءً، وحتى حرق البلاستيك لمن يمتلك حيزًا حول بيته.
لذلك عندما عادت سيارة الغاز لأول مرة بعد انقطاع طويل، شعر الجميع بصوت جرة الغاز كصوت عودة عزيز عليهم من الغربة، وطلب أحدهم من البائع حرفيًا: “عمي طفيلي هالفيروز وسمعنا صوت الجرة”.

بالطبع لا تظهر سيارة الغاز كثيرًا، ومازال الغاز نادرًا، وينقطع بكثرة، وسعره مرتفع بالنسبة لدخل المواطن. لكن في المرات القليلة التي يسمع فيها الناس صوت القرع على الجرار يشعرون بنستولجيا لزمن كانت المواد الأساسية متوفرة فيه بكثرة، وامتلكوا الرفاهية للتململ من صوت مزوديها.
تحول الصوت المزعج، الذي يضرب على العصب كسكب الماء البارد على الرأس، إلى بشارة بأننا نستطيع تشغيل الفرن لإعداد طبخة نسيناها، أو أنه يمكن تسخين إبريق ماء للمتة منتصف الليل بدل انتظار الكهرباء، أو يمكن تسخين الطعام مرتين عوضًا عن تناوله باردًا.
طرطيرة/طريزينة:
توفرت فخر الصناعة السورية في الأرياف غالبًا، ومنعت في المدن بسبب صوتها المزعج. الآلية عبارة عن محرك دراجة نارية من دون أيٍّ من لواحقه التي تخفف من الانبعاثات أو الصوت، ومن المفترض أن يحمل المحرك شخصين على الأكثر، مع ذلك يُركب عليه هيكل حديدي بثلاث دواليب، ويُحمل بكافة البضائع والأوزان، ويُربط مصير كل ذلك بجنزير لا يصلح لدراجة هوائية.
يذكر جدول الضجيج في المناطق المأهولة أن أعلى مصدر للضجة هو إقلاع طائرة نفاثة مع 150 ديسيبل مما قد يسبب تمزق طبلة الأذن. لكن كل السوريين الذين يقطنون في الشمال يعلمون أن عبدو عندما يبرم، أمام ثلاث فتيات، مقبض طرطيرته حتى يلتوي معصمه وكأنه فالنتينو روسي على ياماها، يصدر ضجة أصخب من 150 ديسيبل بمراحل.
في كثير من الأحيان عندما أدرس، أعمل، أو حتى أجلس بهدوء فقط، يقاطعني صوت طرطيرة ما بطريقة لا أترك مسبة في القاموس العربي والألماني ولا أستخدمها- وأنا لا أعرف الألمانية.
ومع أنني أنسى ما كنت منهمًا به، لا أستطيع فعليًا أن أغضب من الطرطيرة طويلاً، فمنذ خمس سنوات عندما كنت أعمل في حقل على أطراف المدينة أتى صوتٌ مدوٍ تبعه دخان أسود ملأ السماء. كانت سيارة مفخخة، ومن حيث كنت أقف استطعت أن أرى أن الانفجار وقع حول منزلي. رحت أجري يومها كالمجنون لأن السيارات كانت نادرة لعدم توفر الوقود. كنت سأصاب بجلطة قلبية على هذه الحال، لولا أن طريزينة، كانت تنقل الخضار من حقل مجاور، أقلتني إلى موقع الانفجار.
الطرطيرة بالفعل هي من حملت السوق طوال فترات انقطاع الوقود أو ندرته. ولولا وجودها لربما تضاعفت أسعار المواد الغذائية الغالية أساسًا.

المرة الأخرى التي كانت فيها الطرطيرة العون الوحيد، عندما قصف الطيران مبنى مجاور وسواه بالأرض. لم يتوفر لا إسعاف ولا حتى أي نوع من السيارات. من استطاع التوازن حملوه على دراجة نارية، لكن جاري كان مصابًا في ظهره. حملناه في خلفية الطريزينة، وعندما وصلنا للمشفى صار صندوقها المعدني أحمرًا.
عندما نزحنا من منزلنا حملنا أغراضنا في نفس الطريزينة وكان صندوقها ما يزال أحمرًا.
سنترفيش:
مضخة المياه المدعوة “سنترفيش” موجودة في كل أحياء حلب. غالبًا، وبكثرة، في الأحياء العالية التي يصلها ضخ شركة المياه ضعيفًا مثل الأشرفية والشيخ مقصود والهلك. وكون مثل هذه الأحياء مكتظة، والشقة فوق الأخرى وكأن سكان الحي يقطنون كلهم سويًا في مبنى واحد، تصبح أصوات السنترفيش في مداخل البنايات الضيقة كهمهمة صاخبة لا تحتمل، خصوصًا بالنسبة لأولئك الذين يسكنون الدور السفلى كحالي.
بعد انقطاع المياه لأسابيع، ثم سنوات، صرت لكما سمعت صوت السنترفيش أتفاءل بوجود المياه- بأنني سأستطيع الاستحمام دون التفكير مطولاً بكمية المياه التي استهلكتها… بأنني لن أصعد إلى السطح وأسحب خرطوم المياه خمسة طوابق لملأ الخزان من صهريج متنقل.
تكبيرات العيد:
في صغري، كانت تكبيرات العيد تتردد بشكل حصري مرتين في السنة. عنت تكبيرات العيد الاستيقاظ باكرًا مع برودة ورطوبة الفجر، أكثر أوقات اليوم هدوءً وسكينة، لتأتي أصوات التكبيرات من المآذن بجلال وهيبة تلائم تلك الساعة.
لاحقًا، ومع قيام الثورة، ارتبط صوت التكبيرات في ذهني بسيطرة الجيش الحر على مناطق جديدة. في كل مرة نسمع صوت التكبيرات نعرف أنه تم تحرير منطقة أو معسكر ما من قبضة النظام، لكن ذلك لم يدم طويلاً. صارت أصوات التكبيرات تعني أن النظام، أو داعش، يقتحمون مناطق سيطر عليها الجيش الحر، والتكبيرات هي نداء استغاثة أو دعوة للنفير لصد هجوم أحد الطرفين. صار قلبي ينقبض كلما سمعت أصوات تكبيرات العيد- أخشى أن النظام قد وصل إلينا وسوف ننزح من جديد أو تصلنا عمليات القتل والاعتقال والتنكيل.
بائع الخبز اليابس:
يتميز بائع الخبز اليابس (هو في الحقيقة مشتري) عن غيره من الباعة المتجولين بصوته الجهوري وجمله الموحدة، الأمران اللذان يجتمعان لإظهاره كالخارج من زمن حجا وقصص الحكواتي مع حماره أو بغله الذي يجر العربة الخشبية.
في فترة ما من العشر سنوات الماضية، صار منزلنا على خط الجبهة بين الجيش الحر والنظام. وفي كثير من الأوقات، خاصة مساءً أو في الصباحات الباردة، يعم هدوء مريب عندما تتوقف الاشتباكات والقصف. كان الحي شبه فارغ من قاطنيه، والشارع العام مهجور لوجود قناصين من الطرفين يرصدان الشارع، واستخدمنا مدخلاً خلفيًا مؤقتًا للدخول والخروج من المبنى.
عندما يعم هكذا هدوء مطبق كنت أشعر بالريبة- هل انسحب الجيش الحر ليلاً دون علم منا والآن سيأتينا النظام منتقمًا؟ هل هنالك خطة لقصف المنطقة بالكامل؟ هكذا أبقى أتسائل حتى يأتي صوت بائع الخبز اليابس. كان الوحيد الذي يجد مربحًا من الحطام وبقايا القصف. عندما أسمع صوته الجهوري يصيح: “يلي عنده خبز ماكن، يلي عنده غسالة عتيقة للبيع، شحاطات نايلون…” أحس أن الأمور مازالت على ما هي ونستطيع البقاء في منزلنا.
في اليوم الذي لم نسمع صوته، غادرنا المنزل.

يشتري باعة الخبز اليابس أمورًا لا فائدة منها ولا يعرف أحدٌ ماذا يفعلون بها، لكن الغريب أنه في حين تراجعت الكثير من المهن إلى الوراء، صار من النادر أن ترى بائع خردوات وخبز يابس على حمار، فقد اغتنوا وصار يملكون سيارات نقل حديثة ومحلات. في وقت خسر الكثيرون نتيجة الدمار، ازدهرت بورصة الخردة.
أصوات الناس:
نحن شعب صاخب. والكثير من حيواتنا متروك ليستمع له الملأ في الشارع بقدر ما نخبأ من أسرار بين الجدران. أم عبدو تصيح من شرفة منزلها في الطابق الرابع على أولادها الذين يلعبون في الشارع، صوت المسلسلات التركية من بيت الجيران وكأنني أحضره معهم، وأم سليم تتشاجر مع زوجها أمام النافذة لأنه لم يحضر ضيافة معتبرة لخُطاب ابنتها. وبالطبع صوت المارة من كل نوع في الشارع- أطفال يلعبون الحجلة أو كرة القدم حتى تأتي سيارة ويضج المكان بصوت البوق، شباب متسكعون يعاكسون الفتيات، طلاب مدرسة يتعلمون مسبات جديدة بملأ أفواههم، صوت المقهى أو المكتب العقاري حيث يهرب “الكبارية” ليلعبوا الطاولة ويتجادلوا حول كل شيء…
لفترة ما انقطعت هذه الأصوات، حيث أن كل تجمع هو هدفٌ لقصف أو تفجير مفخخة، ولا أعلم إن كانت النستولجيا للزمن الماضي أم هنالك تغير فعلي، ولكن هذه الأصوات لم تعد لطبيعتها. هنالك ضجيج ولكنه مخنوق بدل أن يكون حماسي، كئيب بدل أن يكون متفاءل. يبدو الجميع وكأنهم ينتظرون حدوث شيء أو حدوث تغيير. متعبون من العمل، مرهقون من الحياة، مستعجلون للعودة إلى المنزل والجلوس أمام شاشة الموبايل بصمت.
كتابة ورسومات: رافاييل لايساندر
إن كنتم تستطيعون رسم مشهد صوتي مماثل عن بلدانكم أو بلداتكم رجاء راسلونا به

