فن النعوة الضائع

عندما كنت صغيرًا أنتظر حافلة المدرسة، أمضيت وقت الانتظار بقراءة وتأمل أوراق النعي على الجدران. لم أكن أعرف أيًّا من أولئك الذين وفاتهم المنية، لكن كان هنالك شيء في النعوات يجذبني للقراءة عن إنسان لم يعد بيننا، وإنجازاته، وكم يفتقده ذووه.

كان التصميم الاختزالي للنعوات مميزًا عن الملصقات الدعائية المتكلفة والمليئة بالألوان الفاقعة. وتحاول المطبعة باستخدام النص فقط خلق هرمية تصميمية تتسع لكل أقارب المتوفى وناعيه. كان رسميًّا وأنيقًا بلونيه الأبيض والأسود، ويتساوى في النموذج الموحد الغني والفقير، المسؤول والمواطن العادي.

ثم تأتي صيغة النعوة التي تتبع أحد نموذجين اثنين غالبًا. يمكنك أن تميز النموذج المسيحي فورًا بوجود الصليب على طرفي عنوان النعوة، وجملة “من آمن بي وإن مات فسيحيا”، أما النموذج الإسلامي فيتميز بعبارة “انتقل إلى رحمة الله تعالى”. يجتمع النموذجان بعد ذلك في تحديد تاريخ وفاة المفقود، ومن ينعيه، ومن سيتقبل التعازي فيه، وأين، وأخيرًا في الحاشية ترويج للمطبعة وأنها تقدم القهوة المرة وشوادر العزاء.

بعض هذه النعوات كانت مميزة مع ذلك- وخاصة تلك التي تنشر في الجرائد. يتضح من كلمات النعوة أن الفقيد كان يعني لذويه كثيرًا، ففي حين كانت غالبية النعوات كتنظيم لوجستي للعزاء، كان بعضها جياشًا بالعاطفة. تذكر أن الفقيد كان أبًا محبًّا، أو أمًّا لن يعوض حنانها، بعض النعوات تذكر أعمال الفقيد الخيرية، أو إنجازاته في الصالح العام، وبعضها يشير إلى أنه كان معلمًا مربيًا، أو طفلاً اختطفه المرض من والديه المحبين، أو رفيقًا حزبيًا مانته الوفية في منفاه القسري عوضًا عن وطنه الذي كافح من أجله…

أيًا كان النموذج المتبع في النعوة، سواء رسميًا أو عاطفيًا، كانت النعوة ذاتها إقرارًا بوجود شخص الفقيد- أنه كان بيننا، ثم غادرنا، وهنالك من يفتقده، ويجب الاعتراف بوجود هذا الإنسان. هذا الإقرار بشخص الفقيد وسيلة للقول بأنه لم يكن شبحًا غادر دون ان يلاحظه أحد. والنعوة، هي كذلك، تذكير للقارئ بأن دوره قادم، ودعوة له ليفكر بأي كلمات وانجازات سيُنعى.

ما تعلمته من قراءة النعوات أنه وبغض النظر عن إنجازات الشخص، فإن أهم شيء في حياة الفقيد هو حبه لعائلاته وأصدقائه. وتعلمت عن الكرم حتى عند الموت. على سبيل المثال، تذكر بعض النعوات وصية المرحوم بالتبرع لجمعية كان يدعمها، أو أن الزهور ستذبل ولكن عمل الخير لا يضيع، لذلك يرجى التبرع بثمن الزهور، أو تدعو النعوة ببساطة لأن يحب الناس بعضهم.

في الماضي البعيد كان لديهم قصائد الرثاء لتخليد ذكرى الأعزاء، وفي الماضي القريب كانت النعوات في الجرائد وعلى الملصقات. اليوم، مع ظهور الهواتف استُبدل الرثاء وفن النعوة بنص مقتضب على خلفية سوداء يزول من حالة الواتساب خلال 24 ساعة. البعض يكتب كلمات مؤثرة عن فقيدهم في منشورات على مواقع التواصل الاجتماعي، لكنها تبقى ضمن دائرة المعارف. ما نحتاجه أحيانًا هو إعلان ذلك للملأ؛ إقرار علني بأن فلان كان هنا، ولم يمر مرور الأشباح. كصرخة، وإن لم يسمع أحد، تبقى في الأثير.

هذا ما سنحاول فعله هنا في القيامة الآن. سننشر نعوات عن فئة واسعة من الأشخاص، عن الفنان والهاوي، عن رائد الأعمال والموظف، عن المسؤول والمواطن العادي. إذا كنا سنكتب عن شخصية ريادية فلن نذكر إنجازاته التي سيُطنب الإعلام عنها، ولكن سنذكر كم كان أبًا محبًا، وما الأمور الصغير التي أسعدته في الحياة، وإن كتبنا عن مواطن عادي، فسنذكر إنجازاته التي استصغرها العالم طوال حياته.

يمكنكم أن تراسلونا على أحد معرفاتنا لنكتب نعوة، أو تنشروا نعوة من كتابتكم.

كتبها: رافاييل لايساندر